سؤال: يذكر “أحمد جودت باشا” في كتابه الموسوم بـ”تاريخ جودتْ” أن فترة الرقي والازدهار التي عاشتها الدولة العثمانية حتى عهد السلطان سليمان القانوني (1494-1566م) تعرف بعهد البداوة، وتسمى الفترة التي تليها بعهد التحضر أو عهد التمدّن، أما بالنسبة للتفسخ والانحلال الذي أصاب الدولة العثمانية في النهاية فهي مرحلةٌ طبيعية تمرّ بها كلّ المجتمعات؟ فما رأيكم في هذا التقسيم؟ وكيف يمكننا أن نفهمه؟
الجواب: الحقّ أن هذا الرأي الذي ذكره “أحمد جودت باشا” كأنه قد أجمع عليه كلٌّ من المؤرخين وعلماء الاجتماع وفلاسفة التاريخ، حتى إن المعاصرين من أمثال “جيب (Gibb) (1895-1971م)” و”رينان (Renan) (1823-1892م)” قد أفصحوا عن هذه الفكرة، وأعتقد أن أول مَن جهر بهذا الرأي الذي ينطوي على تقسيم الحضارة إلى مراحل هو ابن خلدون (732هـ/1332م-808هـ/1406م)، والمعنى المجمل من أقوال هؤلاء أن المجتمعات كالأفراد تمامًا؛ تولد، ثم تنضج وتبلغ مرحلة الرشد والبلوغ، ثم تشيخ، وبعد ذلك تموت وتفنى؛ بمعنى أن ثمة هوّة سحيقة تقف أمام كل المجتمعات، والكل مكتوبٌ عليه التردي في هذه الهوّة والسقوط فيها.
رغم ما تعرضتْ له الدولة العثمانية من اعتداءات دائمة من الجبهات المعادية في الشرق والغرب، لكنها حافظت على وجودها مدة ستة قرون.
وزيادة في الإيضاح نقول: إننا إذا ما نظرْنا إلى وضع الدولة العثمانية فربما نسمي العهد الأول فيها بعهد البداوة، ولكن إذا ما وضعنا في الاعتبار الخصائص التي تميِّزها فسنجد أنه من الأنسب أن نطلق على هذه الفترة “عهد المدنية شبه الحضارية” بدلًا من استخدام عهد البداوة الذي يوحي بمعنًى سلبيّ.. والمعنى الذي نقصده هنا هو: أن هذا العهد هو عهد الإيمان الخالص، وكانت تسيطر على الناس الذين يعيشون فيه بعض المشاعر والأفكار مثل: الصفاء والطهارة والنقاء، وعدم التشوف لأي أجر من وراء الخدمات المبذولة.
لقد سار هؤلاء في الطريق الذي دلّتهم عليه مثالياتهم، وسعوا بكلِّ عزمٍ وجهدٍ للوصول إلى أهدافهم.. كانوا يتسمون بالطهر والنقاء، ولا يتشوفون لأي غرض دنيوي، إذ ركّزوا اهتمامهم في الهدف الأسمى وهو رضا الله تعالى، وأيًّا كانت المثالية التي يصْبون إليها والغاية التي يرتبطون بها فقد سعوا بهمةٍ ونشاطٍ إلى تحقيقها.
الحفاظ على المستوى
ولكل أمة عهود مجيدة تعيشها خلال أزمنة مختلفة، ولقد كان العهد العثماني في حياة الأمة التركية عَلمًا على مثل هذه الفترة الأسطورية التي توافق المائة والخمسين عامًا الأولى في عمر الدولة العثمانية؛ حيث بزغ السيد “عثمان غازي (عثمان الأول)” (1258-1326م) من صدر “سُوغُوتْ”، وقضى عمره في خيمة، وأسلم روحه إلى بارئها في خيمة أيضًا، ورغم أنه كان بإمكانه أن يعيش في راحة ورفاهية فإنه كان يؤثر حياة البساطة وشظف العيش دائمًا، ومن الممكن أن يُقال إنه كان يعيش على نمط حياة الخلفاء الراشدين أسيادِنا أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم، فلما كان المنهج واحدًا كانت النتيجة واحدةً أيضًا؛ ولا يختلف السيد “أورخان غازي” (1281-1362م) عن أبيه من حيث عشق الحق والحقيقة، وروح الجهاد، والبساطة والنقاء، فقد قضى معظم عمره على صهوة جواده.. أما السيد “مراد خداوندكار” (1326-1389م) الذي استشهد في حرب “كوسوفا الأولى (1389م)”، فما زالت كلمته التي ذكرها حين وافته المنية “إياكم أن تنزلوا عن خيلكم” صوتًا ونفسًا أطلقته هذه الفكرة وانفعل به ذلك الشعور، حتى نُقشتْ في سجل التاريخ.. لقد كان هذا الحاكم العظيم سياسيًّا محنكًا، وأركانَ حربٍ عظيمًا، كما كان في الوقت ذاته وليًّا من الأولياء مطّلعًا على عالم المعنويات.
في عهد هؤلاء القامات العظام الذين أشرنا إلى بعضهم بجملة أو اثنتين رسَمَ العثمانيون لوحة باهرة لامعة في تاريخ الإنسانية، واستمر هذا العهد الذي يمكننا أن نسميه “عهد الشبيبة” حتى فتح إسطنبول على يد السلطان محمد الفاتح (1432-1481م)..
ومع الفتح بدأ الغرب يطلق على الدولة العثمانية “الإمبراطورية العثمانية”، ولا يمكن أن نقول إن مشاعر الصفاء والبساطة والطهر والنقاء التي كانت مهيمنة على الدولة في بداية هذا العهد قد ضاعت تمامًا اعتبارًا من هذا التاريخ، ولكن لا يمكننا أن نقول أيضًا إن الرؤوس لم تدر والبصائر لم تتكدّرْ بسبب ما تحقّق من نصرٍ وغلبة.
كان أسمى إنجاز حققه العثمانيون للحفاظ على هذا المستوى هو تنشئة رجال الروح والمعنى في التكايا والزوايا.
كان من بين من اعتلى العرش بعد فتح القسطنطينية السلطانُ بايزيد الثاني (1447-1512م) الذي كان يعيش حياة رجال التكايا والزوايا، وكان يبذل كلَّ ما في وسعه لمواصلة الأمر بما فيه من صفاءٍ وصدقٍ كما كان الحال في بداية الأمر، ثم جاء فيما بعد السلطان “سليم الأول (ياووز) (1470-1520م)” جعل اللهُ الجنة مثواه؛ كان مثالًا للعزم والتصميم والحسبيّة والتضحية، وغير ذلك من الخصال التي تستلزمها غايته السامية، فسعى جاهدًا لإقامة الحق والحقيقة، والعمل على أن تأخذ الدولة موقعها في التوازن الدولي، وبعد هذا البطل العظيم تولى عرش السلطنة السلطان القانوني (1494-1566م) الذي حمى الدولة العلية لمدة ستة وأربعين عامًا بالقوة التي استمدها من المصدر الأول لسلفه، ولكن إن أخضعنا كل هذه الفترات للتدقيق والفحص، وراقبناها عن قرب أكثر من حيث الحياة الاجتماعية فسنجد أن الدولة قد بدأت تفقد قوامها في هذا العهد.
ربما وصلت الدولة إلى وضع مهيب بسبب الصفاء والصدق اللذين كانا يُخَيِّمان على الصدر الأول منها، وبدأ الملوك يجثون كالعامة على أبوابها، لأنها أصبحت محطَّ أنظارهم وتقديرهم، ولكن من المؤكد أن الدولة كانت تتفحّم من الداخل رويدًا رويدًا، إذ لم يَعُد السلاطين بعد السلطان القانوني جعل الله الجنة مثواه -باستثناء القليل- يخرجون للغزو على رأس الجيش.. لكم أن تتخيلوا مدى الفرحة التي غمرت شعب البلقان عندما زار دولتهم السلطان العثماني الخامس والثلاثين محمد رشاد (1844-1918م)، وكأن حدثًا غير عادي قد وقع بهم، والحال أن وجود السلاطين بين الناس وقيادتهم للجيش كان يقوي الروح المعنوية لأفراده، كما كان هذا الفعل يعني بعث الخوف في صدور الأعداء الذين يُضمرون كل عداء وسوء للدولة ورجالها.
غير أن الخروج للغزو كان أمرًا عسيرًا على إنسانٍ يهرول إلى النوم بمجرد أن يداعب عينيه، ويضع رأسه على الوسادة في راحة وخلوِّ بال فيغطّ في النوم غارقًا، فإذا ما استيقظ جاؤوا له بالفطور، وبين الفطور والغداء يأتون له بوجبة خفيفة، ثم يلي بعد ذلك الغداء، ويرغب دائمًا في أن يظلّ مع أسرته… فمثلُ هذا يصعبُ عليه امتطاء صهوة الجياد للغزوِ في سبيل الله وذلك لأن الإنسان يصبح مع الوقت أسيرًا لهذه العادات ومدمنًا لها، والخروج للغزو وامتطاء صهوة الجواد يجبره على التخلي عن هذه العادات، ولذا يفضل ملذّات نفسه على الخروج للجهاد، وهذا كله يعني الدخول شيئًا فشيئًا في مرحلة التراخي، ومن الصعب جدًّا الحفاظ على المستوى في مثل هذا العهد الذي تبتسم فيه الدنيا بكل جمالياتها الفاتنة، وربما كان أسمى إنجاز حققه العثمانيون للحفاظ على هذا المستوى هو تنشئة رجال الروح والمعنى في التكايا والزوايا، ولا يخفى ما بذله شيوخ الإسلام الأقوياء الذين أنشأتهم الدولة في الوقت ذاته للحفاظ على هذا المستوى، وهذا يعني أنه إن لم يكن هؤلاء لبدأ هذا التفحم منذ فترة طويلة.
جهود لإطالة عمر الدولة
ولا يفهم مما ذكرته آنفًا أنني أهدف إلى النيل من هؤلاء السلاطين العظام وتشويه صورتهم؛ فهذه المرحلة الأخيرة التي مرّت بهم لا نرى بأسًا في تفهّمها والإقرار بها، حتى إننا يمكن أن نسميها: “حتمية إلى حد ما” أو “حتمية مقيّدة”، وبدهي أن مثل هذه المرحلة الطبيعية من التفحّم لا مناص للمجتمعات منها، ولكن قد تتأتى مسألة العلاج دائمًا على أيدي الأطباء الحاذقين، وعلى ذلك قد يتغير قضاء الله في هذا الأمر وفقًا لأساليب العلاج، ولعل هذه هي النقطة التي غابتْ عن ابن خلدون وغيره من المؤرخين الاجتماعيين الغربيين.
ولزيادة الإيضاح نقول: إن الله تعالى قدّر في علمه الأزلي وقتًا معيّنًا لفترات الانبعاث والرقي والانهيار التي تصيب المجتمعات، ونحن لا علم لنا بهذا الوقت، فمثلًا يمكننا أن نطلق “العهد الأول” على ذلك العهد الذي عاشه أبطالُ الإيمان والعشق والشوق الذين أوقفوا حياتهم على إحياء الآخرين وارتبطت أذهانهم بفكرة: “إن لم نحيِ العالم فلا حظَّ لنا أيضًا من هذا الإحياء”.. ونظرًا لأننا لا نعلم الوقت الذي قدّره الله تعالى أزلًا لهذا العهد فلا يمكننا أن نقدّره بخمسين سنة أو مائة سنة؛ لأن القدَر هو تجلٍّ من تجليات العلم الإلهي، ولا قِبل لنا بمعرفته، وعلى ذلك فما يقع على عاتقنا هو أن نعطي إرادتنا حقها وأن نحاول مدّ عمر الخيرات والجماليات التي كانت في ذلك العهد أيًّا كان، سواء أكان الأول أو الثاني أو الثالث.
فلو قُدّر لكم أنكم “إن تصرفتم على هذا النحو ستتعرضون للتعثر والانكسار، وستعجزون عن النهوض مرة أخرى”، ثم بدأت تظهر الإرهاصات الأولى لهذا الأمر، ولكنكم رغم كل شيء بلغتم مستوى رفيعًا في هذا الشأن؛ كأن أقبلتْ عليكم الدنيا بكل مفاتنها وأغدقت عليكم بمناصبها كالإدارة والوزارة وغير ذلك، وابتسمت لكم، ولكن رغم هذا حرصتم على رضا ربكم وقلتم: “ما هذا الذي يعرضه علي هؤلاء الناس بينما أنا أقوم بإقامة صرح هذا الرضا!”، وتصرفتم باستغناء مع كل هذه الأشياء على اعتبار أن هذا من مستلزمات صدقكم وإخلاصكم؛ فمن المحتمل حينذاك أن يتحول قضاء الله إلى عطاء بفضل دأبكم في الحفاظ على مستواكم وقوامكم، وأن تعيشوا فترة جديدة من الانبعاث في خضم هذا العهد من التفسخ والانهيار.
ولا يظنن أحدٌ أنني أستخفّ بالوظائف التي ذكرت أمثلة لها آنفًا، فلا شك أن هذه المناصب لها أهمية بالغة في الحياة الاجتماعية، وأي أمة في حاجة ماسة بالتأكيد إليها في حياتها السياسية والإدارية، ولكن على مَنْ تعلقت نفوسهم بهذه الغاية السامية ألا تتعلّق أذهانهم ألبتة بهذه المقامات والمناصب في مقابل الخدمات التي يبذلونها، وألا يتشوفوا إلى أي غرض دنيوي أو أخروي، وألا يعرِّضوا أنفسهم للذلة والمهانة في سبيل هذه الرغبات مطلقًا.
إن قيادة السلاطين للجيش كان يقوي الروح المعنوية لأفراده، وكان يبعث الخوف في صدور الأعداء الذين يُضمرون كل عداء وسوء للدولة ورجالها.
أجل، متى ما حافظ الناس على مستواهم واصلوا حياتهم وتجددهم، ومدّوا في عمر مجتمعاتهم؛ فمثلًا لو أنكم شاهدتم هذه الأرواح المتفانية وهي تفرّ من مكانها وتبدأ نشاطها لقلتم: “إن هؤلاء بنشاطهم هذا سيواصلون هذا العمل لمدة خمسين عامًا”، ولكن لمّا حافظ هؤلاء على مستواهم، وتغذوا تغذية روحية سليمة، وهيمنت روح الإيمان على حياتهم، وحرصوا على رضا ربهم، وحافظوا على ولائهم وتبعيتهم له سبحانه وتعالى غدت هذه الفترة التي قدرتموها بالخمسين عامًا مائةَ عام، بل لو دام هذا الحماس والانفعال، وسيطر الشدّ المعنوي على حياتهم الاجتماعية فقد تصل هذه الفترة إلى مائة وخمسين عامًا، وفوق ذلك إذا ما ظلت هذه الأرواح تحافظ على مستواها إلى حد ما في ذلك العهد الذي نشطت فيه الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، وسيطرت عليه المادية بكل وجوهها، واصطبغ بالفنون والأنشطة الثقافية؛ فقد يعيشون مائة وخمسين سنة أخرى، ولكن يتعرضون فيها أحيانًا إلى السقوط والنهوض، أو يوضعون في خيمة الأكسجين أو يدخلون العناية المركزة.. وقد تكون هذه الحملة الجديدة وهذا التوجّه الجديد في هذه الفترة وسيلتين لعطاءٍ آخر من الله تعالى ومزيدٍ من لطفه.
ولنرجع إلى موضوعنا الرئيس وهو الدولة العثمانية ونقول:
لا بدّ أن تأخذنا الدهشة والحيرة من كيفية حفاظ الدولة العثمانية على وجودها هذه المدة الطويلة، وليس من انهيارها، وهي التي كانت محاطةً بهذا القدر من الخصوم؛ لأننا منذ أكثر من خمسة وعشرين عامًا وإلى الآن ما زلنا نحارب حفنةً من الإرهابيين في الجبال ولم نستطع التغلّب عليهم.. ولكم أن تتصوروا كيف كانت الدولة العثمانية محاصرةً من جهاتها الأربع بما في ذلك البحار بالخصوم والأعداء؛ ولذا كان وقوفُها من جديد على قدميها بينما هي في صراعٍ مع هؤلاء الخصوم أمرًا جدّ عسير، ولكن رغم كلّ شيء حافظت على وجودها، وأدّت مهمّتها التاريخية بقدر ما، ومن ثمّ فعلينا أن نأخذ كل هذا بعين الاعتبار، وأن نعلن ونعترف بفضائل ومزايا الدولة العثمانية، ونذكرها بمحاسنها، ونستغفر الله لها على مساوئها.
المجتمعات كالأفراد تمامًا؛ تولد، ثم تنضج وتبلغ مرحلة الرشد والبلوغ، ثم تشيخ، وبعد ذلك تموت وتفنى.
وقلّما نجد إمبراطورية أخرى استطاعت الحفاظ على وجودها مدة ستة قرون غير الدولة العثمانية، يمكن أن نجد الإمبراطورية الرومانية قد عمّرتْ مثل هذه الفترة الطويلة، ولكن كما تعلمون فقد تعاقب على عرشها ستُّ أو سبع أسر، فعاشوا فترات مختلفة، بل إن الفراعنة في مصر لم يكونوا أسرة واحدة أيضًا، بل تغيروا خلال قرنين أو ثلاثة، ولذا فرغم ما تعرضتْ له الدولة العثمانية من هجوم واعتداءات دائمة من الجبهات المعادية في الشرق والغرب، ورغم وجودها في موقع خطِرٍ للغاية، لكنها حافظت على وجودها مدة ستة قرون، وهذا أمر -حسب قناعتي القاصرة- لا بد من الاندهاش والعجب له.
المصدر: فتح الله كولن، سلسلة الجرة المشروخة، جهود التجديد، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.