سؤال: ما من نبي من الأنبياء إلا وحلّت به مصائب، فتبرَّأ من حوله وقوّته إلى حَول الله وقوته، وأيقن أن النصر والفرجَ من عند الله؛ فما مكانة “الحَسْبَلَة”[1] في حياة رجال الخدمة وهم يواجهون كثيرًا من المشكلات ويُمْنَوْن أحيانًا بالإخفاق؟
الجواب: لا يتغلب الإنسانُ -وهو العاجز الفقير المحتاج- على مشكلاته إلا باللجوء إلى الله تعالى القدير المطلق الغنيّ المطلق؛ لذا فمن الأهمية بمكان أن يلجأ العبد إلى الله تعالى إن نزلَتْ به مصيبة أو بلاء ويقول: “حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ”.
إنّ هذا الذكرَ دليلٌ على إيمان الذّاكر بأن الله تعالى هو الوكيل الذي إليه مرَدُّ أمورنا كلّها، فإن توجهنا إليه فلن يردَّنا خائبين، ولن يكلنا أبدًا إلى أنفسنا، ولن يدعنا وحدنا.
إذا أردنا أن نحصن أنفسنا من شر الأعداء فلنلجأ إلى حول الله وقوته، ولنشحذ همتنا ونردد كل يوم خمسمائة مرة بل ألف مرة “حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل”.
بَطَلٌ لا مثيل له في أفق الثقة
قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم:
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ (سُورَةُ التَّوْبِةِ: 9/129].
يقول بديع الزمان سعيد النورسي في تفسير هذه الآية: “معناها: إذا تولى أهل الضلالة عن سماع القرآن، وأعرضوا عن شريعتك وسنتك، فلا تـحزن ولا تغتـمّ، وقل: “حَسْبِيَ اللهُ”، فهو وحده كافٍ لي، وأنا أتوكل عليه؛ إذ هو الكفيل بأن يقيض من يتبعني بدلًا منكم، فعرشُه العظيـم يـحيط بكل شيء، فلا العاصون أفلتوا منه، ولا الـمستعينون به حُرِموا مدده وعونه”[2].
وورَدَ في هذا دعاء أوصانا رسول الله ﷺ أن ندعو به صباح مساء:
“يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ”[3].
إن مَن لم يستطع أن يرقى بعالمه الداخلي يتعذر عليه أن ينجو من معاناته وضيق صدره وإن ملك الدنيا كلها.
وإن جاز لنا أن نشرح هذا بتفصيل أكثر فلنقل: “اللهم إني أسألك وأنا أسير في سبيلك ألا تدع شيئًا من الفسق والفجور -يضرّ بلباب الأمر ويخلط الحابل بالنابل- يتسلل إلى عملي؛ اللهم لا تكلني إلى نفسي ولا إلى الشيطان طرفة عين، فإنك إن وكلتَني لم أدر في أيّ غيّ سأتردّى؛ ولو تحكمت فيّ النفسُ الأمّارة -وهي ليست محلّ ثقة- فأنا لا محالة مغلوب، أما إن كنتَ وكيلي فلسوف أهتدي إلى الطريق المستقيم وأتمكن من السير عليه؛ فإنّ النفس والشيطان لا يد لهما تمتد إلى عملٍ تُحيطه سبحانك بحولك وقوتك.
سرُّ الأحدية يتجلى في نور التوحيد
لما أعرَضَ قومُ سيدنا إبراهيم عليه السلام عنه لجَأَ هو ومن معه إلى الله تعالى متوكلين عليه، فجابهوا كلّ تهديد، وثبتوا أمام الكفار، وبدؤوهم بقولهم:
﴿إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ (سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ: 60/4(.
وهذا إعلانٌ منهم أنه لا قيمة لِما يُعبد من دون الله، بل لا تستحق تلك الآلهة شيئًا مما يُنسب إليها، وليست جديرة بأي تكريم أو تعظيم؛ ثم قالوا بلسان من لا حيلة له -معبرين عن تجلي سرّ الأحدية في نور التوحيد-:
﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ: 60/4-5].
وأستطرد لأشير إلى المسألة التالية: إذا أردنا أن ندرك المنزلة الرفيعة لسيدنا رسول الله ﷺ مقارنةً بالأنبياء الآخرين فلنعلمْ أنّ كلّ تبجيل وتقدير من الله تعالى له كان مَنْ سبقه من الأنبياء يطلبه من الله تعالى طلبًا؛ فمثلًا: سأل سيدنا موسى عليه السلام ربه أن يشرح له صدره، فقال: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ (سُورَةُ طَهَ: 20/25]؛ أمّا سيدنا رسول الله ﷺ فقد أُوتي هذا الفضل في مقام الامتنان؛ قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ (سُورَةُ الشَّرْحِ: 94/1].
وتذكر الآيات السابقة -في مقام تكريم الله لرسوله ﷺ أن الله تعالى هو حسبه ووكيله، أما سيدنا إبراهيم عليه السلام ومن معه فقد سألوا الله تعالى أن ينعم عليهم بهذا الفضل.
هذا وفي آية أخرى أن سادتنا الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم كانوا يلتجئون إلى الله تعالى، ويعتمدون عليه عند لقاء العدو:
﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 3/173)
أجل، قال سادتنا الصحابة “حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ” في موضعٍ يستدعي خوف الإنسان ووجلَه وقلقه وحيرته في الظروف العادية، وكانوا يترقبون لقاء العدو وهم في حالة تحفزٍ قصوى.
رسالة الآية الحَسبية[4]
يقول الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله رحمة واسعة: “حينما جرّدني أربابُ الدنيا من كلّ شيء، وقعت في خـمسة ألوان من الغربة، فلما أوشكت جذوة الأمل تنطفئ وطأطأتُ رأسي يائسًا إذا بالآية الكريـمة ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 3/173) تغيثني قائلة: اقرأني جيدًا بتدبرٍ وإمعان، فشرعت أقرؤُها خـمسمائة مرة كل يوم، وكانتْ كلما تلوتُها تكشف عن بعض أنوارها وفيوضاتها الغزيرة…
وكلما تلقيتُ ذلك الدرسَ من تلك الآية الكريـمة أحسستُ بقوة معنوية عظيمة، وشعرتُ أنني أملك قوة أتـحدّى بها العالـم بأسره لا أعدائي الـماثلين أمام عينيّ فحسب”[5].
حقًّا إن من انشرح صدره هكذا لا يضرّه همٌّ ولا كدر، ولا يصده عن غايته سجنٌ أو تضييق؛ فسجنه “مدرسة يوسفية”[6] يؤدِّي فيها رسالته، بل لو تأتى له الخروج من السجن فلربما آثر البقاء حتى يُتمّ ما شرع فيه من أعمال مباركة لتصبح نافعة لمن في السجن.
هذا هو الانشراح الحقيقي والفسحة والسَّعَة الحقيقية؛ أما مَن ضاقت به حياته الروحية والقلبية فلا شك أن الضنك والاضطراب بانتظاره، وأن الآلام تلو الآلام ستدهمه حتى إنه لا يجد مخرجًا من هذا الضيق وإن حاز الدنيا بأسرها.
أجل، إن مَن لم يستطع أن يرقى بعالمه الداخلي يتعذر عليه أن ينجو من معاناته وضيق صدره وإن ملك مصانع تنتج له يوميًّا آلاف اليخوت وأفخر السيارات، بل ولو أحرز كلَّ الإمكانيات المادية؛ أما الراحة والسعادة الحقيقية فهي ذلك الانشراح الذي يقذفه الله في قلب العبد، فإذا نزلت بهذا العبد مصائبُ كالجبال صهرَها في قلبه وأحالها إلى ألعاب نارية تبعث السعادة فيمن حوله.
إنّ هذا الذكرَ دليلٌ على إيمان الذّاكر بأن الله تعالى هو الوكيل الذي إليه مرَدُّ أمورنا كلّها، فإن توجهنا إليه فلن يردَّنا خائبين.
ولعل تلك التجليات التي أُلقيت في قلب الأستاذ النورسي رحمه الله تفيض على قلوبنا حين تطبع مشكلاتنا آثارها في عالم خيالنا لتزلزل تصوراتنا وأفكارنا؛ نعم، إن مَن دأب على عقد صلة وثيقة مع الله وهرول نحو الإيمان الكامل والإخلاص الأتمّ خاصةً قد يحظى بأكثر من هذه التجليات، لكن معظمنا لا ينصت لحديث قلبه ولا يكترث لخواطر كهذه قد ترد على عقولنا بل نعدّها أمورًا مألوفة ترد على خاطر كل إنسان، وبذلك نغفل هذا الضرب من التجليات؛ أما العظماء فلم يكونوا يعدونها أمورًا عبثية مألوفة، بل يرونها إنذارات وتحذيرات، ويقولون: “لا جرم أن لهذه الأمور معنًى وحكمة”؛ والأستاذ النورسي عَدَّ هذا المعنى النفيس الذي أُلهمَه قلبُه ذا قيمة كبيرة، فعُني به، وبدأ يردد “حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ” خمسمائة مرة في اليوم.
إن في تَكرار الأستاذ لهذه الكلمة المباركة خمسمائة مرة يوميًّا دلالة على أنّ للتكرار حكمة تساعد على فهم المسألة بعمق؛ فإذا أردنا أن نحصن أنفسنا من شر الأعداء فلنلجأ إلى حول الله وقوته، ولنشحذ همتنا ونردد كل يوم خمسمائة مرة بل ألف مرة:
“حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ”
على القلب المؤمن أن يلجأ إلى الله تعالى وقت الظفر والنجاح كما يلوذ به وقت المصائب والكوارث.
ويمكن أن نقوم بهذا كما نفعل في قراءة بعض الأذكار إذ نقسمها فيما بيننا: فلان كذا مرّة وعلّان كذا مرة؛ لنحظى بثواب الشركة في الأعمال الأخروية، فلو اجتمع عشرة منّا وقرأ كلّ منهم هذه الكلمة المباركة مائة مرة نرجو أن يُكتب لكل واحد ثواب ألف.
وفي النجاحات “حَسْبِيَ اللَّهُ” أيضًا
على القلب المؤمن أن يلجأ إلى الله تعالى وقت الظفر والنجاح كما يلوذ به وقت المصائب والكوارث، وهذا يعني أن مدى الكمية والكيفية في مسألة الحسبلة يختلف من شخص إلى آخر؛ فمنهم من يقول “حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ” في المصائب أو المشكلات المعضلة فقط، ويتوجه إلى الله تعالى بهذا الذكر عندما يقع في ورطة وتنقطع به السبل، فتُحَلّ مشكلاته بإذن الله وعنايته ومزيد فضله وإحسانه؛ ومنهم من يقوله على الدوام، ويلجأ إلى حول الله وقوته صباح مساء، لا سيما من انكشفت له الآفاق، وسما فبلغ أفق السر والروح، فإنّه يغدو وكأنه يشعر بأثر قدرة الحق تعالى حتى في أدنى أموره الخاصّة.
أجل، إنهم يعيشون في معارج “حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ” وإنْ في أيسر الأمور التي يُعتقد أن تحلّها الإرادةُ الإنسانية في الظاهر، مثل نظم الخيط في الإبرة أو وضع اللقمة في الفم، بل إنهم يفكرون أحيانًا كالجبرية المتوسطة، ويقولون بـــ”الاستطاعة مع الفعل”، وليس لهم من أفعالهم سوى القصد والمَيْل بل سوى التصرف في المَيل، ويكررون على الدوام: “لا خالق إلا الله”؛ وهذا في الحقيقة تعبير عن التوحيد الخالص.
لا يتغلب الإنسانُ -وهو العاجز الفقير المحتاج- على مشكلاته إلا باللجوء إلى الله تعالى القدير المطلق الغنيّ المطلق.
والحقّ أنّ اتباعنا للسنة النبوية الشريفة بأن نكرّر سبع مرات في أدعية الصباح: “حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ” يدلّ أننا أعلنّا أنه سبحانه وتعالى هو وكيل كل شيء، الكفيلُ بحلّ ما يعرض لنا من مشكلات نهارًا، فإذا ما أقبل الليل وكررنا هذا الدعاء مرة أخرى نكون قد استودعنا ذا الرحمة الواسعة ليلَنا.
اللهم مُنّ علينا بأن ننسج كلّ لحظة من حياتنا أوشحةً نورانية من السُّنة السَّنيَّة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
[1] الحَسْبَلَة: هي قول الإنسان: “حَسْبِيَ اللهُ” أو “حَسْبُنَا اللهُ”.
[2] سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة الحادية عشرة، النكتة الرابعة، ص 75.
[3] النسائي: السنن الكبرى، 9/212؛ الطبراني: المعجم الأوسط، 4/43؛ الحاكم: المستدرك، 1/730.
[4] رسالة الآية الحسبية: من مؤلفات الأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورْسي، وهي “الشعاع الرابع” من كتاب “الشعاعات“؛ هذه الرسالة عبارة عن نكتة مهمة للآية الكريمة ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 3/173).
[5] بديع الزمان سعيد النورسي، الشعاعات، الشعاع الرابع، ص 67.
[6] المدرسة اليوسفية: اسم سمى به الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي السجونَ التي سُجن فيها هو وطلابه “طلاب النور” مستلهمًا مما قام به سيدنا يوسف عليه السلام في السجن من إرشاد؛ فإن الأستاذ وطلابه اقتفوا آثار النبي الجليل يوسف عليه السلام في هذا، وهدى اللهُ على أيديهم كثيرًا من أهل تلك السجون.
المصدر: فتح الله كولن، شد الرحال لغاية سامية، الجرة المشروخة، حسبنا الله ونعم الوكيل، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.
ملحوظة: عنوان المقال من تصرف المحرر.