إن الإنسان إذا أراد أن يدخل في عالم كلام الله فعليه أن يستعدّ لذلك بـقلبِه وروحِه ومشاعرِه، وإنما يتأتى له ذلك بتنقيّة هذه الآليّات وتنظيفِها من سُلطة الشيطان؛ فإن الله تعالى انتزعَ الشيطانَ من بينِ صفوف الملائكة، وطَرَدَه من بابه، وحَرَمَه مِن رحمَتِهِ، وحرَّم عليه الصعودَ إلى السماوات… فعلى المؤمن أيضًا أن يطردَهُ من قلبه الذي هو أعظمُ حرمةً من الكعبة، حتى يكونَ متخلِّقًا بأخلاق الله، مستحقًّا للولوجِ إلى رحاب القرآن.
فبهذه المشاعر حينما نبدأُ بتلاوة القرآن نقول في البداية: “أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ”، واستحبّ بعضُ الأئمة مثل الإمام أحمد بن حنبل زيادةَ: “السَّميع العليم” حيث تكون الصيغة: “أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ”.
شرح المفردات وتحليلها
1- أعوذ
هو مشتق من العَوْذ، وله معان: الالتجاء إلى أحد، والاستجارة به، والتعلُّق والتشبُّث به، فيكون المعنى: إليه ألتجِئ، وبه أستجيرُ وأتشبَّث.
أي ألتجئ إلى لطف الله وعنايته وإحسانه، واعتمادًا على لطفه تعالى أستجير به من كلِّ شيءٍ يؤذيني ويضرُّني، ولاعتمادي عليه أتشبَّثُ به وأعتصِمُ بحبلِهِ.
أي إني في منتهى الضعفِ والضحالة، لكنّي باتِّكالي عليه أقاوم كلَّ شيءٍ؛ وهكذا أبوءُ بمنتهى القوَّةِ تجاه الشيطان الذي يتربَّصُ بي الدوائر، ولا يألو جهدًا في وضعِ مختلفِ الفخاخِ والمصائدِ في طريقي.
2- بِاللهِ
إن لفظة “الله” تختَزِلُ معاني جميع الأسماء الإلهيّة المتجلّية في الكون، ومسمَّاه هو الذات المنزَّهُ عن صفاتِ النقصانِ كلِّها، والمتَّصِفُ بصفات الكمال كلها، الذي تتموَّجُ جميع الكائنات بتجلِّيات أسمائِهِ وصفاتِهِ، والذي لا يحيطُ به إدراكُ البشر، وليس كمثلِهِ شيءٌ.
ومعنى قولنا: “أعوذُ بالله”: ألتجئُ وأعتمد على من بِيَدِهِ التصرُّفُ في كلِّ الكون، مِن كلِّ الشرور والأشرار والشياطينِ الذين يأتوننا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ومن تحتنا.
3- الشيطان
كلمة “الشيطان” مشتق إما مِن “شَطَنَ – يشطُن” أي بَعُدَ، وإما مِن “شَاطَ – يَشِيطُ” أي هَلَكَ واحترقَ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: “الشيطانُ كلُّ متمرِّدٍ من الجن والإنس والدوابّ”.
وعلى الأول فكلُّ من ابتعد من رحمة الله فهو شيطان، سواء كان من الإنس أو الجن، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ (سورة الأَنْعَامِ: 6/112).
وأما إذا اعتبرناه مشتقًّا من “شاط – يَشيط” فيكون السبب في تسميته “شيطانًا” أنه كان بإمكانه أن يقوم بأعمالٍ مفيدةٍ له وأن يتقرَّب إلى الله بالسجود، لكنه تَمرَّدَ على الله وجمحَ، وبذلك أهلكَ نفسَه.
4- الرجيم
الرجيم بمعنى المرجوم، كاللعين بمعنى الملعون… أي المطرود من باب الله، والـمُبْعَد عنه تعالى.
إن الإنسان قد لا يَشعُر بوساوسِ الشيطان، وحتى إنْ شعر ببعضها فلا يستطيع التخلَّصَ منها، فكأن الشيطان أَسَّسَ محطَّةً في قلب الإنسان، وقعدَ على رأسِهِ ليتحكَّمَ فيه، ومِن بعد ذلك ركَّز فيه لاقطًا أو جهازَ استقبالٍ خاصٍّ بالوساوسِ الشيطانية.
فكما أن في قلب الإنسان جهازَ استقبالٍ أو آلةً يستطيع أن يتلقَّى بها ما يَرِد من الحقِّ تعالى؛ فكذلك هناك محطّة للشيطان.
فالشيطان يلقِّن مشاعرَ الإنسان وأحاسيسَه أمورًا قد لا يُحسُّ هو بها غالبًا، وإنْ أحسّ بها فالوساوس التي تستقبلها المشاعرُ لن يكون بمقدورِ الإنسان دفعُها في كثيرٍ من الأحيان، فحينئذٍ نقول: “أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ”، ونلتجِئ إلى السميع الذي يَسمع ما يُلقيه الشيطانُ في قلوبنا من الوساوس التي لا نَقْدِر على سمعها، وإلى العليم الذي يَعلمُ حقيقةَ تلك الوساوس ويَقْدِر على دَفْعِها، لأنّه هو الأعلمُ والأحكمُ والأقدرُ والأبصرُ…
المصدر: فتح الله كولن، خواطر من وحي سورة الفاتحة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.