المبلّغ رهيف وشـديد الحساسية تجاه ضلال النـاس عن الحق، يؤلمه إعراضهم عن أوامر الله تعالى واعتراضهم عليه ألماً شديداً في الصميم. ويظل طاوياً لهذا الألم حينما يرى ردّة في الدين ونفسُه عاجزة عن القيام بشيء تجاههم، فليس له إلاّ الاضطراب والقلق والحسرات عليهم. والقران الكريم يرسم الحالة النفسية الناشئة من شدة الحساسية والاضطراب الذي كان يعانيه الرسول في سبيل التبليغ والدعوة بالآية الكريمة: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾(الشعراء:3). ولا شك أن هذه الحالة النفسية ينطوي عليها كل مبلّغ، بل ينبغي له.
والردة تعنى الارتداد عن الدين الحق، والمرتد هو الذي ينكر جميع المقدسات التي آمن بها من قبلُ، وهو من جهة يحقّر المسلمين ويستهين بهم وبعقيدتهم، فمن يهن المسلمين مرة واحدة يمكنه أن يهينهم كل وقت، لذا يرى البعض أن المرتد لا حق له في الحياة. بيد أن علماء الفقه وضعوا أسساً لكل حكم، فقالوا: إن المرتد يفهّم أولاً المسألة التي أرتدّ بسببها ويُسعى إلى إقناعه بجميع تفرعات تلك المسألة. وإذا انتفت جميع الوسائل لإقناعه ولم يرجع إلى الصواب تبين أن هذا الإنسان غدا ورماً خبيثاً في جسم المجتمع الإسلامي. فيعامل وفق ذلك.( ) ذلك لأن المؤمن لا يمكنه أن يقف مكتوف الأيدي أمام ارتداد شخص ما. لأن مفهوم الردّة في الإسلام لا يسمح بذلك. بل إن كل مؤمن يتألم ألماً شديداً إذا ما سمع بالحادثة وذلك حسب مستوى مشاعره وشدة حساسيته في الأمر، أما ألم واضطراب المبلّغ فيفوق كل ألم واضطراب، لأنه يعلم جيداً أن هداية الناس هي غاية وجوده.
استعجل سيدنا خالد بن الوليد في حادثة، لدى تقييمه قواعد الدين في مسألة الردّة، وعندما بلغ الخبر رسول الله تألم ألماً شديداً ودعا الله قائلاً “اللّهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد”.
وقد انعكست هذه الحساسية الشديدة لدى الرسول ﷺ إلى أصحابه الكرام، فمثلاً: قدم على عمر بن الخطاب رجلٌ من اليمامة، فسأله عما حدث من أمر جاد. فأخبره: ليس إلاّ أن رجلاً كفر بعد إسلامه. قال: فما فعلتم به؟ قال: ضربنا عنقه. فتحسّر عمر حسرة عميقة كما فعل رسول الله، ثم قال: “أفلا حبستموه –ثلاثاً-، وأطعمتموه كلّ يوم رغيفا، واستتبتموه لعلّه يتوبُ ويُراجِع أَمْرَ الله؟ ثمّ قال عمر: اللّهمّ إني لم أَحضر، ولم آمُر، ولم أَرض إذ بلغني”.
المصدر: فتح الله كولن، طرق الإرشاد في الفكر والحياة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.