Reader Mode

من الناس مَن يرعى دعوة الإسلام في أوقات الراحة والاستقرار، ومنهم من يتبنّاها في أوقات الشدة والمحن، المهمّ أن يرضى الإنسان عن الوضع الذي هو فيه، وأن يؤدّي المهمّة المنوطة به بالكامل وفقًا لمتطلّبات الظروف والأوضاع، على سبيل المثال فإن بعض الناس طالما ينعمون بالراحة والاستقرار تراهم يضطلعون بخدمة الدين، ويعيشون حياتهم على الاستقامة وفق رضا الله تعالى، وبالتالي يقومون بأعمال تقودهم إلى الجنة، غير أن هؤلاء إذا تعرضوا لابتلاءات قاسية فقد يخسرون في وقت هو أدعى للكسب.

على الرغم من صعوبة الصعود إلى قمة برج الإخلاص، فإن البقاء هناك بشكل دائم أكثر صعوبة.

من الجميل أن يحاول المرء الوصول إلى العظمة ويتأسّى بالعظماء، يقول مفخرة الإنسانية  ﷺ: “خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي”[1] أي عصر السعادة النبوي، وخير جيل شهدته وستشهده البشرية على الإطلاق هو جيل الصحابة رضوان الله عليهم، ورغم ذلك لا ينبغي للمرء أن يقول: “يا ليتني عشت في زمن رسول الله ﷺ”، لأن المخاطر على قدر النعم والمكاسب، والغنم بالغرم؛ والابتلاء كان عظيمًا شديدًا.. وإن العيش في هذه الحقبة فيه من الخطورة ما فيه من الشرف والمغانم؛ فقد يفوز المرء ويكون في صفّ مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم، ومن الممكن أيضًا -حفظنا الله- أن يكون في الطرف المقابل، فليس من السهل على الشخص آنذاك أن يتخلّص من آثار وبقايا الجاهلية، وأن يترك البيئة الثقافية التي نشأ فيها، وينتقل إلى الضفة الأخرى وهي الإيمان بالله عز وجل..

 فكما أنَّ كلَّ زمانٍ فيه مَن يُعارضون هديَ النبي  ﷺ، فإنه من المحتمل أيضًا أن يقف في ذلك الوقت مع المناوئين لرسول الله  ﷺ ويتعرّض للخسران الأبدي، وحتى وإن آمن المرء في ذلك الوقت، فلم يكن من السهل أيضًا أن يثبت على إيمانه؛ فإن العدوَّ قويٌّ، والحربَ ضروسٌ.

أن مكافأة الحكام العادلين عند الله كبيرة بدرجة تفوق تصوراتنا إذا وفّوا بواجبات المسؤولية الثقيلة التي يتحملونها، وضمنوا وصول الحقوق إلى أصحابها.

نحن جميعًا أبناء البيئة الثقافية التي نشأنا فيها، ونظرًا للحقبة الزمنية التي نشأنا فيها أسلمنا وآمنا بالله ورسوله دون مشقّة أو إكراه، وتغلغلت العادات والتقاليد الإسلامية في أرواحنا، فلم نُعانِ صعوبةً في تقبّل الإيمان.. ومن ثم فمهما شكرنا ربنا على حالنا فهو قليل، ومع أن شاعر الإسلام “محمد عاكف” يقول مستسلمًا لمشاعره:

لو كنتُ أعلم عصره الوردي، لكنت بلبله؛
يا ليتكَ خلقتَني من قبل، يا ربّ!

فيجب ألا يُنظر إلى المسألة من جانب واحد.. بل ينبغي رؤية دهاليز الخسران كما يُرى أفق الفوز، فبموجب قاعدة “الغنم بالغرم”، ينبغي ألا يُنسى أن العيش في عصر السعادة النبوي ينطوي على مخاطر بقدر ما له من نعم ومكاسب، فلا أحد منا يعلم ما إذا كان بإمكاننا أن نتحمل معاناة ومشقات تلك الحقبة أم لا، لذلك فعلينا أن نرضى بحالنا، وأن نسعى إلى الاستفادة القصوى من الإمكانات المتاحة لنا، يجب علينا أيضًا أن نقيس القدر الذي يسمح به المناخ العام الذي نعيش فيه والبنية الاجتماعية والظروف المحيطة والنظام العام؛ من أجل معايشة الإسلام وتبليغه للآخرين، وأن نحاول التحرك وفق هذا الإطار.

ينبغي لنا ألا نستخفّ بمعاناة الصحابة والتابعين وتابعي التابعين والذوات العظام ممن عاشوا بعدهم في فترات لاحقة، فقد أمضى كثير منهم حياتهم على ظهور الخيل، وعلى الجبهة في جهاد دائم مع أعدائهم، وكانوا في هجرة دائمة من مكان لآخر، كما فاضت أرواح كثير منهم على الجبهات، لقد ماتوا ولكنهم تسبّبوا في إحياء الآخرين، ومن الطبيعي أن هناك فئة أخرى في هذا الوقت قد انكبوا على وجوههم وتعثروا وتساقطوا على الطريق.

لن يكون من السهل على جيل مثلنا قد اعتاد على الراحة ولم يواجه صعوبات حقيقية أن يثبت في مواجهة مثل هذه الابتلاءات القاسية، وأن يثابر في مواجهة الصعوبات التي لا تُطاق.. لذا علينا أن نشكره تعالى على حالنا قائلين: “الحمد الله الذي خلقنا في زماننا هذا، ولم يُحملنا ما لا طاقة لنا به”، علينا أن نعيش بحلم الوصول إلى مستوى الذين عاشوا في عصر السعادة النبوي بدلًا من أن نطلب العيش في ذلك العصر، المهم هو ألا نخون المهمة المنوطة بنا، وأن نكون قادرين على الوفاء بحقّها.

إن الحق تعالى يهدي بعض الأفراد أو المجتمعات السبيل ليكونوا عظماء، ويهبهم المزيد من النعم، فلو أنهم علموا قدر هذه النعم التي قدَّرها الله لهم، لأنعم عليهم بنعم أكثر منها، وإلا فإنهم لن يكونوا قادرين حتى على الوقوف عند مستوى العامة من الناس، بل إنهم ينحدرون أسفل منهم، لقد خلق الله تعالى الإنسان في الحقيقة مرشحًا للوصول لمثل هذه العظمة، لأنه مظهر لأحسن تقويم، وهو أشرف المخلوقات؛ وكأنه خلاصة الوجود كله وجوهره، إنه المخلوق الذي سجدت له الملائكة، فإذا ما قصر هذا الإنسان -الذي كرمه الله كل هذا التكريم- في الوفاء بحقّ القابلية والجاهزية اللتين يتمتع بهما؛ هوى إلى أسفل سافلين، وأصبح مخيَّرًا بين ثلاث: إما أن يفعل الخيرات أو يرتكب المنكرات أو يظلّ ساكنًا دون حركة، والحالتان الأخيرتان تؤدّيان إلى سقوطه في الهاوية، أما الصعود فله طريق واحد: هو عمل الصالحات، ولقد صاغ القرآن الكريم هذا الأمر في الإيمان بالله وعمل الصالحات، ويمكننا أن نرى هذا التوازن من النعم والمشاق ومن المغنم والمغرم في حياة كل فرد، ولكن قد يكون هذا أكثر وضوحًا عند البعض، فبقدر المغرم الذي يتحمّله الإنسان يكون المغنم، وهذه القاعدةُ مصدر العديد من الأحكام الفقهية، على سبيل المثال لا تكون المكافأة الممنوحة للمحارب المغوار الذي يواجه الأعداء واضعًا الموت نصب عينيه في ساحة القتال نفس المكافأة الممنوحة لأولئك الذين يخدمون في الخطوط الخلفية.

يمكننا إنزال القاعدة نفسها على علاقتنا مع الله؛ حيث يكون قرب المرء من الله بحسب موقعه وتعمّقه في العبادة، فالعبد يتقرّب من الله بقدر المشقّة التي تحملها في سبيل العبادة، وكلما تقرّب من الله ازدادت النعم التي سيحظى بها، وبالطبع تزداد المسؤولية عليه بنفس القدر، فلا يتساوى من ينتظر أمام الباب بالذي يُستقبل في الردهة، أو الذي يُصطحب إلى غرفة الضيوف بالذي يُجلس في الغرفة الخاصة، فإن الذي ينتظر أمام الباب يُلقى في الشارع على الأكثر إن لم يراعِ آداب المكان الذي يقف فيه، بينما الذي يُستقبل في الغرفة الخاصة إن لم يفِ بحقّ موقعه، ولم يتصرّف باحترام تجاه الاهتمام الذي حظي به، فإنه يسقط من قمة إفرست إلى قاع البحر الميت.

إن عاقبة الحكام الظالمين ستكون وخيمة جدًّا؛ لأنهم خانوا الوظيفة التي استؤمنوا عليها، ولم يتحروا العدل مع رعيتهم.

يمكننا توضيح المسألة بمثال مختلف: قد يُشرِّف الله تعالى بعض الناس بمهمة الإرشاد والتبليغ أو يجعلهم قادة ومسؤولين يوجهون الجماهير، فإن الوظيفة المنوطة بهم في هذه الحالة هي حسن استغلال المكانة والاعتبار والإمكانات والفرص التي يتمتعون بها في توجيه الناس إلى الطريق المستقيم، أما إذا لم يفعلوا هذا، فخدعوا وأضلوا الحشود التي تسير من خلفهم، فإنهم بذلك لا يكونون قد أوفوا بحقِّ موقعهم، بل أساؤوا استخدامه، ومن ثم فإن عِظم الذنب الذي سيتحملونه سيكون كبيرًا جدًّا.

إن الإنسان إذا حظي بموقع أو مكانة ما، فإنه مكلف بالوفاء بحقّ هذا الموقع، فلا ينبغي أن يُضلل أولئك الذين يتفقدون نظراته، ويعتمدون عليه، ويصغون له، وألا يتخلى أبدًا عن المشورة حتى لا يَضِلّ أو يتسبب في ضلال الآخرين، وألا يتحرّك بناءً على مشاعره، وأن يراعي حسابات الله وليس حسابات نفسه أو عياله أو أسرته، وأن يحرص دائمًا على أن يخطو خطوات ويضطلع بأعمال ترضي الله تعالى وترضي سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، وأن يجعل القرآن الكريم والسنَّة النبوية دليلين له، وأن يستمسك بهما حتى لا يُدمر آمال من يقودهم خلفه ويحطم قواهم المعنوية ويعرضهم للانكسار.

وكما أن مكافأة الذين أحرزوا مكانة مهمة ستكون عظيمة إذا وفّوا بحق مواقعهم، فإن عقوبة من يخونون موقعهم ستكون كبيرة أيضًا بنفس القدر، لهذا يقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم في حديث شريف: “إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ، وَأَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ جَائِرٌ”[2].

علينا أن نرشد ونوجه بعضنا البعض إلى الخير والصلاح دائمًا حتى نحافظ على علاقتنا مع الله تعالى، ونتمكن من الوفاء بحقّ موقعنا.

أجل، كما أن مكافأة الحكام العادلين عند الله كبيرة بدرجة تفوق تصوراتنا إذا وفّوا بواجبات المسؤولية الثقيلة التي يتحملونها، وضمنوا وصول الحقوق إلى أصحابها، فإن عاقبة الحكام الظالمين ستكون أيضًا وخيمة جدًّا؛ لأنهم خانوا الوظيفة التي استؤمنوا عليها، ولم يتحروا العدل مع رعيتهم، ولم يستخدموا الإمكانات التي منَّ الله عليهم بها كما يجب. أجل، “بقدر الكد تُكتسب المعالي”، أي إنّ جميع النجاحات -المادية منها والمعنوية- تكون متناسبةً مع المشقات ومع الجهود المبذولة في سبيلها، فعلى المرء إذا أراد أن يحظى بتلك الغنيمة الكبيرة أن يتحمل أعباءها، فكلما كان المكسب كبيرًا كان الخطر أكبر.

فإذا فتح الحق تعالى أعينكم -إلى حد ما- على الحقيقة، وأنعم عليكم بفرصة العمل مع الصالحين، فإن المنوط بكم هو أن توفوا موقعكم حقه، وأن تجعلوا الموقع الذي أنتم فيه دائمًا نصب أعينكم، وأن يتساءل كل منكم: “ماذا عليَّ أن أفعل في هذه الحالة؟ كيف يكون يا تُرى الطريق الذي سأتبعه؟” فإن لم يكن عقلكم قادرًا على تحديد وجهتكم، فعليكم أن تلجؤوا إلى العقل الجمعي، وتحاولوا الوصول معًا إلى الوجهة الصحيحة، وعند البحث عن الأسباب التي تساعدكم على الوفاء بحقّ موقعكم، ينعم الله عليكم بألطاف غير عادية، ويحرككم السَوْق السبحاني إلى طريق الخير، وفي الحقيقة فمن الخطإ أن نقيِّم النعم الجمّة التي حظينا بها اليوم بغير هذا.

من جهة أخرى فإن الوفاء بحق الموقع يتطلّب الاستمرارية، فعلى الرغم من صعوبة الصعود إلى قمة برج الإخلاص، فإن البقاء هناك بشكل دائم أكثر صعوبة، فإذا كان صعود برج الإخلاص يتطلّب وحدة جهد واحدة، فإن البقاء هناك يتطلب عشر وحدات من هذا الجهد؛ حيث إن من يسقط من فوقه -حفظنا الله- يسقط في هاويةٍ سحيقةٍ على حدّ تعبير الأستاذ بديع الزمان، فبقدر ارتفاع البرج الذي يصعده، يكون عمق الهاوية التي يسقط فيها، لهذا السبب هناك حاجة دائمة إلى التقوية والتوجيه من أجل الحفاظ على الاستقامة، فمن ناحية يجب أن نحرص على ألا نحطم القوة المعنوية للفرد، ومن ناحية أخرى يجب أن نعين الجميع على محاسبة أنفسهم، علينا أن نرشد ونوجه بعضنا البعض إلى الخير والصلاح دائمًا حتى نحافظ على علاقتنا مع الله تعالى، ونتمكن من الوفاء بحقّ موقعنا، كما يجب ألا نهمل التغذية الروحية والقراءة والتفكير والمناقشة والتفكر حتى نتمكن من الحفاظ على قوامنا.

علاوة على ذلك قد يمنحنا الله أحيانًا إمكانات مختلفة، على سبيل المثال قد تمتلكون وسائل إعلامية قوية، وصحفًا أكثر مبيعًا، وقنوات تلفزيونية أكثر مشاهدة، ومؤسسات تعليمية متقدمة، وعندها ينبغي ألا تنسوا أن هذه الأشياء تتطلب شكرًا يتناسب معها، وتستوجب وفاءً بحق هذه النعم، فينبغي أن تلجؤوا إلى العقل الجمعي، وأن تُعملوا عقولكم في تحديد كيفية الاستفادة من الإمكانات التي حظيتم بها أفضل استخدام.. عليكم من جهة أن تقوموا بتحديد الرسالة التي ترغبون في تقديمها بشكل صحيح، وتختاروا الأسلوب الملائم عند تقديمها، ومن جهة أخرى عليكم ألا تعطوا الفرصة لبعض المخالفين والأعداء الذين يعترضون سبيلكم؛ وإلا فإن الله سيحاسبكم على هذا.


[1] صحيح البخاري، الشهادات، 9؛ صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 212.

[2] سنن الترمذي، الأحكام، 4.

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts