سؤال: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/164)، فكيف ينبغي لنا أن نفهم هذه السمات التي عدّدتها الآية الكريمة للنبي ﷺ؟
الجواب: يستهلّ الله تعالى هذه الآية بقوله: “لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ”، وهو بذلك يلفت الأنظار بدايةً إلى ذلك التفضّل العظيم والعطاء الجزيل الذي منّ به على عباده؛ بأنْ أرسل إليهم رسولًا منهم ومن أبٍ وأمٍّ مثلهم وليس مَلَكًا من السماء؛ وهذا مِن عظيم فضله وإحسانه ومنّته على الناس. أجل، لقد تفضّل الله عليهم برسولٍ منهم ومن أنفسهم يشاركهم أفكارَهم ومشاعرَهم، ويقودهم إلى طريق الخير، فإذا ما احتاجوا إلى إمام تقدّمهم، وإن احتاجوا إلى قائدٍ بيّن لهم كيف تكون القيادة النموذجية، والحاصل أنه كان رائدهم في كلّ مناحي الحياة ومرشدهم في كلِّ لحظة ينشدونه فيها، فيا له من شرفٍ عظيم بالنسبة لنا أن يرسِل لنا ربُّنا من بيننا مثل هذا النبي العظيم! فكيف لا يبالي المؤمنون بهذه النعمة الإلهية؟! وهي نعمةٌ ليست بالبسيطة، وشكرُها يكمن في أدائها بحقّها.
القرآن مفعمٌ بحكمٍ تعجز أمامها العقول ولا تملك إلا أن تذعن وتُسلِس له قيادَها.
ثم يقول تعالى: “يَتْلُو عَلَيْهِمْ اٰيَاتِه”؛ أي يتلو على المؤمنين، واللافت هنا أن الله تعالى عبّر بـ”التلاوة” وليس القراءة أو العرض أو التقديم، وهذا أمرٌ في بالغ الأهمية؛ إذ تعني التلاوةُ القراءةَ تباعًا وعلى الدوام، كما أنه فضّل استخدام صيغة الفعل المضارع “يتلو” لزيادة التأكيد على الديمومة؛ لأن صيغة المضارع تدلّ على الزمن الواسع، وعلى ذلك فإذا ما نظرنا إلى المسألة من حيث حياته السنية فسينكشف لنا المعنى التالي: إنه ﷺ يداوم على تلاوة آيات الله عليكم مستعينًا بتنوّع الأسلوب في القرآن الكريم حتى لا تُصابوا بالملل، ولا يسيطر عليكم الإلفُ والتعوّد.. فيعرضُ عليكم القضايا مرةً تلو أخرى وبأشكالٍ مختلفة حتى تُحافظوا على نشوتكم وحيويتكم.
ولنا أن نستنبط المعنى التالي من الآية: كما كان سيد الكونين ﷺ يتلو آيات الله عليكم في حياته فسيظل يتلوها أيضًا حتى بعد أن يرحل إلى أفق روحه؛ ولذا يمكن أن يُقال إن هذه إشارة أيضًا على أن القرآن محفوظ بالنبي ﷺ في حياته وبعد رحيله إلى ربه سبحانه وتعالى.
ولكم أن تربطوا هذا الأمر بـ”المنّة” التي تحدثتْ عنها الآية في البداية؛ بمعنى أن الله تعالى منّ عليكم بإرسال رسولٍ يواظب على تلاوة آيات ربه سبحانه، ولا يكتفي بهذا، بل “وَيُزَكِّيهِم”، أي يبيّض وجوهكم، وينقّي سرائركم، ويزكّي نفوسكم، ويصفّي قلوبكم، فتتجولون بارتياحٍ في تلال القلب الزمردية[1].. وكلّ هذا منوطٌ بتزكيته هو ﷺ لكم؛ ولا يتأتى إلا في ظل دعوته.
مشاهدة الوجود من أفق الحكمة
ثم يقول سبحانه: “وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ”؛ أي يعلّمهم بدايةً القرآنَ المعجز البيان، أي الآيات البينات، والقول الشارح والتفسير الواضح والبرهان القاطع والترجمان الساطع للأوامر التكوينية والتشريعية وبتكراره ﷺ لهذه الآيات يمزّق -كما يقول الأستاذ النورسي رحمه الله- غطاءَ الألفة وستار العادة الملقى على موجودات الكون قاطبة، ويوجّه الأنظار إلى الحوادث والأشياء؛ بخلفياتها وجوانبها الميتافيزيقية، وأبعادها الروحية، ويعلّمكم في الوقت ذاته الحكمة.
وللحكمة معانٍ متعدّدة؛ منها الاطّلاع على باطن الأشياء وخلفيّاتها، والوقوف على المقاصد والمصالح في خلق الله للكون والإنسان، ومعرفة أن كلّ شيء في الكون موضوعٌ في نصابه، وليس فيه من عبث.
وتُطلق الحكمة أيضًا على السنة السنيّة للصادق المصدوق ﷺ؛ لأن القرآن مفعمٌ بحكمٍ تعجز أمامها العقول ولا تملك إلا أن تذعن وتُسلِس له قيادَها، فجاءت السنة الشريفة؛ ففصّلت القضايا الإجمالية في كتاب الله تعالى سواء ما يتّصل منها بالحياة الفردية أو الاجتماعية أو الأخروية، ولقد تناول شمسُ الفضيلة صلوات ربي وسلامه عليه الآيات البينات ففصّل مجملها، وقيّد مطلقها، وخصّص عامّها، ولم يدع جانبًا غامضًا فيها؛ مما دعا بعض المفسرين إلى أن يُفسّروا “الكتاب” في الآية بـ”القرآن”، و”الحكمة” بـ”السنة” الشريفة[2].
إن الذين يبحثون عن كلّ شيء في المادة قد انحدرت عقولهم إلى عيونهم، والعين لا تبصر المعنويات.
وفي ختام الآية يقول سبحانه وتعالى: “وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ”؛ أي إنكم كنتم في ضلال مبين حتى تنزلت عليكم النعم التي منّها الله عليكم زخًّا زخًّا.. ويمكن أن نفسر “الضلال” هنا: بمعنى عدم التمسّك بالقرآن، والحرمان من التزكية والآيات البينات والحكمة، والنظر إلى الكون بنظرةٍ وضعيّة طبيعية، وردّ كل شيء إلى الطبيعة، بيد أن الذين يبحثون عن كلّ شيء في المادة قد انحدرت عقولهم إلى عيونهم، والعين لا تبصر المعنويات.
وهكذا يمزّق القرآن الحكيم هذا الحجاب؛ بمعنى أنه يكشف عن حقيقة كل شيء، أي لا يدع الأمر للبصر، بل يُحيله إلى البصيرة، ولا يقتصر على العقل، بل يجعل العقلَ محكومًا بالقلب، ثم يستأمن على العقل موازين القلب السليمة، وهكذا تُواتي الإنسانَ فرصةُ رؤية وفهم كل شيء على ماهيته الحقيقية، أي يحظى بمشاهدة الحوادث والأشياء من أفق الحكمة.
وهذا كلّه بعض قطراتٍ من سلطنته المعنوية ﷺ، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه بقدر ما استوعبته العقول ووسعته القلوب، ولا تحرمنا اللهم من دائرة سلطنته لا في الدنيا ولا في الآخرة.
[1] للمؤلف كتاب في المصطلحات الصوفية والحياة القلبية والروحية بعنوان “التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح” في أربعة أجزاء. (الناشر)
[2] الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن، 3/86.