سؤال: ما هو الأدب؟ وما معنى أن يكون الإنسانُ مؤدَّبًا؟ وكيف ومع مَن يجب أن نتأدَّب؟
الجواب: الأدب يعني الاحترام والتوقير، ويأتي أحيانًا بمعنى التربية أيضًا.
والأدبُ هو سجيّة أخرى تنالُها الروحُ بفضلِ المبادئ الدينيّة، وبمعنى أوسع هو استقرار يتحقَّقُ للروحِ بامتزاجِها مع الدين، لكن ليسَ كلّ دِين يجعل الإنسانَ مؤدّبًا مهذّبًا، الإسلام فقط هو ما يجعله كذلك، ونحن إذا ما ذكرنا الدين فإننا نعني بذلك دين الإسلام.
والأدبُ في الوقت ذاته عنوانٌ للوصول إلى مرتبة الإحسان؛ يعني القيام بالتكاليف التي أُمرنا بها مستشعرين مراقبةَ الله لنا، والتعامل مع الآخرين وكأننا نرى ربنا، وهذا أيضًا هو شعور الإحسان في مراتب الأدب.
والأدب بالمعنى الأخصّ هو اتّباع النبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله وتصرُّفاته فضلًا عن الفرضِ والواجبِ، والعمل على توفيقِ وتناسُبِ حياتِنا مع معطياتِ حياته صلوات ربي وسلامه عليه.
من الأدبِ أن يُطيعَ الإنسانُ ويوقِّرَ الأكبرَ منه ومرشدَه ومعلِّمَهُ وقائدَه ورئيسَه في العمل ما دام هؤلاء يتحرَّون ميزانَ الحقّ.
وقديمًا قال الأجدادُ حول الأدبِ كلماتٍ نفيسة كحبَّات الجوهر:
الأدب هو لباس دائم للإنسان
ومن لا أدب له يشبه العريان
الأدبُ تاجٌ من نور اللهِ الوضَّاءِ
فتقلَّدْ تاجَ الأدب تأمنْ من كلِّ بلاء
فأهلُ العِلْمِ لا يستغنون عن الأَدَبِ أبدًا
فليسَ سَيِّئُ الأدَبِ بعالِـمٍ وإن درسَ من العلوم عددًا.
وارتباطُ العلم بالأدب لأنه وكما قال يونس أمره:
العلم هو أن تعرف
أن تعرف نفسك
فإن لا تعرفها
فالعفاء على ما قَرَأْتَ.
إن سيدَنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم هو من بلغَ ذروةَ الكمالِ في الأدب، ولا فرقَ في أن نتناول هذه المسألة بمعنى التربية أو بمعنى القدرة على الكلام والخطاب عنده صلى الله عليه وسلم، فالنتيجة واحدة؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم يتربَّعُ على الذروةِ دائمًا.
ذات يوم يسأله سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: من الذي أدّبك يا رسول الله؟ فيجيبه عليه الصلاة والسلام قائلًا: أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي .
ثم يسألون زوجه السيدة عائشة رضي الله عنها؛ ابنة أبي بكر الصديق، وأمنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بل وإلى أبد الآبدين: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: “كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (سُورَةُ القَلَمِ: 68/4)” .
وعلى ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم الذي رباه ربه يتبوَّأُ أعلى نقطة في أفق الأدب، بمعنى أن من يريد أن يتعلَّمَ الأدب عليه أن ينظر إليه صلى الله عليه وسلم؛ فهو المرآة العظيمة التي تُجسِّدُ الأدبَ انعكاسًا، وأن يشاهدَ الأدبَ في تلك المرآة بما يتوافق مع قامتِهِ.
لقد خلقه الله على أدبٍ يتأسَّى به الخلقُ أجمعون، وأدّبه وربّاه، وإلا فكيف كان يُطيق حمل عبءٍ كبيرٍ مثل النبوة، فإن لم يحظَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه التربية، أو لو افتَرَضْنا المستحيلَ فقلْنا: لو ارتكبَ أخطاءً مثلنا، فإن هذه الأخطاءَ لن تنحصرَ عليه وحده، بل سيتعدى أدنى خطإٍ منه إلى ملايين من الناس، ولذا ربّاه ربُّهُ تربيةً خاصّةً وجعلَه أسوةً وقدوةً لنا.
لقد انُتزِعَتْ من صدر نبينا ﷺ تلك النقطةُ السوداء الكائنة لدى كل إنسان والتي هي هدف للعديد من سهام إبليس المتنوِّعة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم متحليًا بذلك الأدب قبل البعثة، شارك النبي صلى الله عليه وسلم فعليًّا في بناء الكعبة قبل بعثته،كان هذا دأبه صلى الله عليه وسلم طوال عمره يسعى في أعمال الخير ويحض الناس عليها، عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا بُنِيَتِ الكَعْبَةُ، ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبَّاسٌ يَنْقُلاَنِ الحِجَارَةَ، فَقَالَ عَبَّاسٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ يَقِيكَ مِنَ الحِجَارَةِ، فَخَرَّ إِلَى الأَرْضِ وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: “إِزَارِي إِزَارِي فَشَدَّ عَلَيْهِ إِزَارَهُ” ، ومن يومها لم يكشِفْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن موضعٍ لا تليقُ رؤيتُهُ.. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفظِ الله ورعايتهِ حتى في مرحلة ما قبلَ النبوة.
ويتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مظاهر حفظِ الله له من نزعات الشباب ودواعيه قبلَ النبوَّة؛ فيقول صلى الله عليه وسلم: “مَا هَمَمْتُ بِقَبِيحٍ مِمَّا يَهُمُّ بِهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ مِنَ الدَّهْرِ كِلْتَاهُمَا عَصَمَنِي اللَّهُ مِنْهُمَا، قُلْتُ لَيْلَةً لِفَتًى كَانَ مَعِي مِنْ قُرَيْشٍ بِأَعْلَى مَكَّةَ فِي غَنَمٍ لِأَهْلِنَا نَرْعَاهَا: أَبْصِرْ لِي غَنَمِي حَتَّى أَسْمُرَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِمَكَّةَ كَمَا يَسْمُرُ الْفِتْيَانُ، قَالَ: نَعَمْ، فَخَرَجْتُ، فَلَمَّا جِئْتُ أَدْنَى دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ سَمِعْتُ غِنَاءً، وَصَوْتَ دُفُوفٍ، وَمَزَامِيرَ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: فُلَانٌ تَزَوَّجَ فُلَانَةَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشِ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَهَوْتُ بِذَلِكَ الْغِنَاءِ، وَبِذَلِكَ الصَّوْتِ حَتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي، فَنِمْتُ فَمَا أَيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي، فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، ثُمَّ فَعَلْتُ لَيْلَةً أُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَخَرَجْتُ، فَسَمِعْتُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقِيلَ لِي: مِثْلُ مَا قِيلَ لِي، فَسَمِعْتُ كَمَا سَمِعْتُ، حَتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي، فَمَا أَيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي، فَقَالَ لِي: مَا فَعَلْتَ؟ فَقُلْتُ: مَا فَعَلْتُ شَيْئًا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَوَاللَّهِ، مَا هَمَمْتُ بَعْدَهُمَا بِسُوءٍ مِمَّا يَعْمَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِنُبُوَّتِهِ” .
تشير كل هذه الأحداث التي وقعت قبل بعثته صلى الله عليه وسلم إلى أن ربنا تبارك وتعالى لم يهيِّئ الفرصة لرسوله الله صلى الله عليه وسلم لارتكاب أيِّ ذنبٍ طيلةَ حياتِهِ، وهذه طبيعة استثنائيّة خاصّة برسولنا صلى الله عليه وسلم.
عاش ﷺ حياةً طاهرةً صافيةً، ورحل عن الدنيا مثل اليوم الذي ولدته فيه أمه.
وكيف لا، وهو الذي شُقّ صدره في طفولته (وإنني أستحيي أن أقول طفلًا على رسول الله وهو الذي كان يتحلى بالكمال منذ ولادته)، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ “أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ” .
أجل، لقد انُتزِعَتْ من صدر نبينا صلى الله عليه وسلم تلك النقطةُ السوداء الكائنة لدى كل إنسان والتي هي هدف للعديد من سهام إبليس المتنوِّعة، فلم يستطع إبليس اللعين الذي يوسوس لنا ويجري مجرى الدم في عروقنا أن يقتربَ من دائرتِهِ أو يحوم حولها، فقد كان عليه الصلاة والسلام بشرا وليس كالبشر.
وكما صرفه الله عز وجل عن ارتكاب الذنوب قبل بعثتِهِ صرفه أيضًا عنها فيما بعد، فعاش حياةً طاهرةً صافيةً، ورحل عن الدنيا مثل اليوم الذي ولدته فيه أمه، ولقد كان مثالًا للأدَبِ تجسَّدَ فيه أحسنَ تجسيد.
لقد أحاط الأدب بحياته كلها، فكيفما وحيثما تحرَّكَ كان الأدبُ يلازمه، فمثلًا: أحيانًا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضبُ ويحتدُّ، فيُصبِحُ كالبحرِ الهائجِ الذي ترتفعُ أمواجُه إلى عنان السماء؛ ورغم ذلك كان غضبُه في ذلك الموقف أدبًا؛ لأنه موقف وقع فيه ظلمٌ على إنسان ما، وهو صلوات ربي وسلامه عليه ألد أعداء الظلم، كان يزمجر غضبًا لا يهدأ حتى يؤدِّي الحقَّ إلى صاحبه، كان في تلك اللحظة يُشبهُ الأُسودَ التي ترجُّ الغابات بصيحاتها، ومع ذلك لم يُرْوَ عنه أنه صلى الله عليه وسلم امتعضَ وجهه أو غَضِبَ لنفسه قطّ، وفعله في هذه الحالة كان أدبًا يستلزم هذا الفعل.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: “كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ” .. يا لحلمه الكبير وصفحه العظيم!
وهناك مواقف عدة يغضب فيها حتى النخبة من الناس ويُعذَرون في غضبهم هذا، ورغم ذلك كان صلى الله عليه وسلم في هذه المواقف يشعُّ كالشمس بأدبٍ جمٍّ، ومن أكثر الأمثلة اللافتة للنَّظَرِ في هذا الصدد:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل غزوة أحد يفضِّلُ البقاء في المدينة والدفاعَ عنها بسبب رؤيا رآها قبل الخروج إلى أحد، ورؤياه صلى الله عليه وسلم وحيٌ، فقد كان يرى مثل هذه الرؤى في الستة أشهر الأولى من بعثته صلوات ربي وسلامه عليه، وكان ما يراه في منامه يتحقق يقظةً كفَلَقِ الصبح، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: “أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ” .
قبل الخروج إلى أحد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا قام بتأويلها مستنبطًا منها أن أحد أقرب أقاربه سيستشهد في هذه المعركة، وأن الخروج سيتمخَّضُ عنه تصدُّعٌ بين صحابته.
أصرَّ على عدم الخروج من المدينة بدايةً، لكن الصحابةَ رضوان الله عليهم كان يحدوهم الانفعال والشوقُ إلى قتال الأعداء حتى إن صِدْقَهم وتشبُّعَهم بفكرةِ خدمةِ الإسلامِ حالَ دون استيعابِ مسألةِ الدِّقَّةِ في امتثالِ الأمر. أجل، لا يمكن التعبير عن صنيعهم هذا بأيِّ شكل آخر، فانطلقوا في الطريق مسرعين مقدمين على الموت، لا سيما وأن منهم من كانَ يغلي كالمِرجَلِ همًّا وغمًّا بسببِ عدم مشاركته في غزوة بدر مثل أنس بن النضر، فأضحوا كالسيف الذي انسل من غمده، وأصروا على الخروج متوسِّلين متضرِّعين.
وهنا أيضًا نشاهد أدبًا فريدًا من الآداب الاجتماعيّة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث جلس عليه الصلاة والسلام مع صحابته واستشارَهم، ولم يصرّ على رأيه ما دام هناك رأيٌ تُرجِّحُهُ الشورى، وهذا أدبٌ وظَرَفٌ من القائد، لو أصرَّ فلا ريبَ أنهم سيُطيعونه، إلا أنَّ مخالفتَهم له ولو قدر أنملة قد يُفضي إلى هلاكهم، وعلى ذلك راعى النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسألةَ الدقيقةَ؛ لأنه في الوقت ذاته هو صرحُ الشفقة، ولذا حرص على ألا يتعرَّضَ أصحابُه رضوان الله عليهم للخسران بمخالفتهم له، ومن ثم نزلَ على القرارِ الذي ارتأَتْهُ المشورة الجماعيّة، وبعد أن لبِسَ لأمَةَ الحربِ وتجهَّزَ للخروجِ راجعَ الصحابةُ أنفسَهم وأرادوا أن يرجعوا إلى رأي رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم، ولكن بعد فوات الأوان فَقَالوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، شَأْنَكَ إِذًا، فَقَالَ: “إِنَّهُ لَيْسَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ” .
سار المسلمون إلى أحد، وصفَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الجيشَ بنفسِهِ، ونظَّمه أيَّما تنظيم؛ إذ إنّه صلوات الله عليه أركانُ حربِ هذه المعركة، فما أن دارت رحى المعركة حتى بدأت صفوف العدو بالاضطراب، وشرَعَت جحافلهم بالفرار، غير أن المسلمين خالفوا الإستراتيجية التي وضعها رسول الله؛ بمعنى أنهم لم يراعوا تمامًا مسألةَ الامتثال لأمر رسول الله، فقد شدَّدَ النبي صلى الله عليه وسلم على الرماة قائلًا “إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلاَ تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا القَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ، فَلاَ تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ” ، فلم يستطع الرماة أن يستوعبوا هذه المسألة، وربما قالوا في أنفسهم: “إن أمر رسول الله ينحصر في المدة التي تتخللها حربه مع المشركين، وهم الآن أي الأعداء يبحثون عن مفرٍّ، ومن ثم فوجودُنا هنا عبث، فلنذهب ونُعاوِنْ أصحابَنا”.
والنتيجة معروفة لدى الجميع؛ فقد قُطِّع تسعةٌ وستُّون شخصًا كما يُقَطَّعُ اللحمُ على جذعِ الشجرة ووقعوا شهداء، وكان من بينهم سيِّدُ الشهداءِ حمزة رضي الله عنه، في الواقع ما نجا أحدٌ من ضربةٍ بسيفٍ أو طعنةٍ برمحٍ، وظلَّ بعضُهم يُعاني طوال عمره من الجروح التي أثخَنته، لكن المصيبة الأدهى هي انكسارُ كرامة الإسلام، وهذا كان أعظم الجروح بالنسبة للمسلمين.
حقيقةً إن ما حدَثَ قد يُغضِب أيَّ إنسانٍ في وضعِ قائدِ الجماعة، ومن الطبيعيِّ أن يغضَبَ ويتضجَّرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مما فعلَهُ الرماةُ، ولكن الله تعالى لم يهيِّئْ له الجوَّ لاحتماليّة وقوعِ هذا الغضبِ منه في المستقبل، وحفظه ورعاه وخاطبه قائلًا:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 3/159).
كان إنسانًا مهذبًا حتى إن ربنا تبارك وتعالى لم يخاطبه بقوله: لا تكن فظًّا أو غليظَ القلب، ولكن قال له: “وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ” بمعنى أنك لست كذلك.. ولو افترضنا المحالَ وكنتَ هكذا؛ لانْفضُّوا من حولك، ولذا عامِلْهم بأدبِكَ العالي، وأَلِنْ جانِبَكَ معهم.
وهكذا كان الحق جل وعلا يحول دون وقوعِ أيِّ ذنبٍ منه صلى الله عليه وسلم، ويصرفُ حبيبَهُ عن الذنوب، والسؤالُ هنا: لأجل مَنْ يفعلُ الحقُّ هذا؟ إنّه لِأَجْلِ ذلك الإنسان الذي سَيُمَثِّلُ أمَّةً في المستقبل، وكان عليه الصلاة والسلام أيضًا يراعي الدقَّةَ في امتثاله لأمر القرآن حتى زالت وتلاشت عنه الأفكار السيئة التي يمكن أن تراوده في المستقبل.
ولم ينتهِ الأمرُ بذلك، بل قالَ له: “فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ”؛ لأنه ينبغي لهم أن يتجنَّبُوا الأمورَ التي تُقَلِّلُ من قدرِهم وعَظَمَتِهم، ولذا قال الله لنبيِّهِ: “وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ “.
فضلًا عن ذلك وقعَ في أنفسِهم أنهم مجرمون لمخالفتِهم أمرَك، وطالما يشعرون بذلك سيعتبرون أنفسَهم مجرمين، ولذا فادْعهم وشاوِرْهم في الأمر من جديد وكأنَّ شيئًا لم يحدث.
وهكذا نرى ربَّنَا تباركَ وتعالى يوجِّهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم إلى اتِّخاذ هذا الأسلوب في أحرجِ الأوقات وفي مرحلةٍ تستدعي الصياحَ والصراخَ، حتى يمنعَهُ من اقترافِ ذنبٍ يمكنُ أن يحدثَ في المستقبَلِ ويعلِّمَهُ أعلى وأرقى درجات الأدب، وعلى مثل ذلك الأدبِ تأدَّبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قَالَ أَنَسٌ: “كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا”، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: “يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟” قَالَ قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ أَنَسٌ: “وَاللهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ، مَا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ أَوْ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: هَلَّا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا” .. فلقد تخلَّقَ صلى الله عليه وسلم بأخلاق الله، وأمر أمته أن تتخلق بالأخلاق نفسها.
ثمة مصدران رئيسان سنتعلم من خلالهما هذا هما: الكتاب، والسنة التي تتضمن أفعال الرسول وأقواله وتقريراته.
فلو أن الأدبَ هو حياته السنية النورانيّة -التي هي أعظم تَـرِكَـةٍ لنا منه- وما فيها من فرضٍ وواجبٍ وسنَّةٍ ومباحٍ؛ فمن الضروري أن نتأدَّبَ بأدبه صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن التأدُّبَ بالفَرْضِ فرضٌ والتأدب بالواجب واجبٌ والتأدُّبَ بالسنة سنةٌ والتأدُّبَ بالمباح مباحٌ؛ لأن الله تباركَ وتعالى قد أرسلَه إلينا ليعلِّمَنَا الحياة، وبالفعل تعلَّمْنا منه صلوات ربي وسلامه عليه أَدَبَ المأكَلِ والمشرَبِ وقضاءَ حاجيّاتِنا الفطريّة، ومن الممكنِ دراسةُ أحاديثِهِ صلى الله عليه وسلم من الناحيةِ الطبِّيَّةِ، إلا أن هذا موضوعٌ مختلِفٌ ومستقلٌّ، وحتى لا نشتِّتَ الموضوعَ لن نتطرَّقَ إلى هذه الناحية من المسألة، أما المسألةُ التي لا بُدَّ من التوقُّفِ عندها هنا فهي الآداب التي علَّمَنَاها النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن راعينا هذا الأدبَ حقَّ الرعاية ونظمْنا حياتنا الفردية والأسرية والاجتماعية وفقًا لهذا الأدب فإننا نكون بذلك إلى جانبِ تطبيقِنا القرآن في حياتنا قد أجَبْنا على شقٍّ من السؤال القائلِ: كيف نتأدَّب؟ ومع من يجب علينا أن نتأدَّبَ؟
فالصحابة كانوا محترمين للغاية ومؤدّبين جدًّا مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنّهم عندما كانوا يجلسون لسماعِهِ يجلسونَ وكأنَّ على رؤوسهم الطير، كانوا يسمعونه في دقّة واهتمامٍ وكأنّهم لا يُريدون أن تفوتهم أيُّ كلمةٍ تخرج من فمِهِ الشريف صلوات ربي وسلامه عليه، وكانت كلما زادت معرفتُهم به ترسَّخَ احترامهم النابعُ من هذا الحبِّ، واكتسب توقيرهم له عمقًا وفقًا لمستوى التعرُّفِ به.
كان لا يجرؤ معظمُهم على سؤاله مباشرةً، بل كانوا يتمنَّون أن تواتيهم الفرصةُ فيغترفوا من فيضِ حديثه وهم يسمعون جوابَهُ صلى الله عليه وسلم على سؤالٍ يطرحُه رجل غريبٌ أتاه من الخارج؛ كانوا يترقّبون هذه الفرصة بفارغِ الصبر، قليلٌ منهم من حدّثَ النبي صلى الله عليه وسلم بكلماتٍ دون تلعثُم، وهذا لا ينبعُ من ضغطِهِ صلى الله عليه وسلم عليهم، بل ربما من وقارٍ وجدّيةٍ ومهابةٍ تتعلّق بشخصيتِهِ المباركة صلوات ربي وسلامه عليه.
ولما رأى عروة بن مسعود تعظيمَ وتوقيرَ الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء صلح الحديبية تعجَّبَ وتحيَّرَ، ثم رجع إلى قومه في مكة وقال لهم: “أَيْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى المُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ، وَكِسْرَى، وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ” .
وهكذا نرى بين هؤلاء الصحابة الكرام قلوبًا تفيض احترامًا وتوقيرًا لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كانوا يقفون على بابه وكأنهم خدام له.
وإنَّ الداهيَةَ الدبلوماسيّ والسياسيَّ العالميَّ عمرَو بن العاص رضي الله عنه لما حضرَتْه الوفاةُ أخرجَ شيئًا في خوفٍ واضطرابٍ، وقال: ضعوه تحت لساني، فلما سألوه ما هذا؟ قال: هذه شعرات مباركةٌ من لحيةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ إنّه كان على يقينٍ بأن الله سيُخفِّف من حسابه إكرامًا لهذه الشعرات.
وخالدُ بن الوليد رضي الله عنه؛ ذلك القائدُ العظيم الذي لم يُهزم قطّ، والذي أعز الله به الإسلام، وكما يقول العقاد: “الداهية الكبير الذي لا مثيل له” لما وقعت العمامة من فوق رأسه وتدحرَجَتْ على الأرض في إحدى المعارك ترجَّلَ عن فرسِهِ وجَعَلَ يَسْتَحِثُّ فِي طَلَبِهَا فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: “إِنَّ فِيهَا شَيْئًا مِنْ شَعْرِ نَاصِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّهَا مَا كَانَتْ مَعِيَ فِي مَوْقِفٍ إِلَّا نُصِرْتُ بِهَا” . نعم، لقد نفذَ النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الدرجةِ إلى أرواحهم.
كانوا يقومون له صلوات ربي وسلامه عليه عند مجيئه، ولا يجلسون إلا بعد جلوسِهِ، لا ريبَ أنه لم يطالبهم بذلك، ناهيك عن الطلبِ؛ بل إنّه حذَّرَهم من ذلك، كما جاء عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَقَالَ: “لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ، يُعَظِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا” ، غير أن الصحابة كانوا يقومون له كل مرة طَوعًا وحبًّا، ويعتبرون هذا واجبًا.
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ مِنَ الأَنْصَارِ لَطَمَ فِي وَجْهِي، قَالَ: “ادْعُوهُ” فَدَعَوْهُ، قَالَ: “لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟” قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي مَرَرْتُ بِاليَهُودِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى البَشَرِ، فَقُلْتُ: وَعَلَى مُحَمَّدٍ، وَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ فَلَطَمْتُهُ، قَالَ: “لَا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ العَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ” .
وعندما خاطبه الحق جل وعلا قائلًا: “وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ” قال: “مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى” حتى لا تراود أحدًا فكرةٌ لا تليق بمقامِ أيِّ نبيٍّ من الأنبياء.
هكذا كان أدبه وتوقيره للأنبياء جميعًا، ولا يعلم قيمة الجوهر إلا الصائغ، فإذا أردنا أن نعرف أو نتعرف على سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما السلام فعلينا أن نسأل في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى نتلقَّى منه الجوابَ الشافي، والعكس صحيح، من أجل ذلك أخذ سيدنا عيسى عليه السلام يُبَشِّرُ بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قبل قدومِهِ بقرابةِ خمسة قرون، كما جاء في إنجيل يوحنا: “رئيس هذا العالم يأتي” ؛ لأن هؤلاء هم أدرى الناس بعظمتِهِ وكرامته، ورغم ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يخفضُ جناحَ التواضُعِ، كما سرَدْنا آنفًا فيما يتعلَّقُ بالتفاضل بينه وبين الأنبياء.
أجل، كل هذا كان أدبًا منه صلوات ربي وسلامه عليه، وهكذا كان تواضعه، وكلما أظهر النبي صلى الله عليه وسلم تواضعَه رفعَ الله مقامَهُ ودرجتَهُ، فارتقى وارتقى حتى بلغ المقام المحمود، وأريد هنا أن أنبِّهَ إلى مسألةٍ معيَّنةٍ؛ ألا وهي أن المقامَ المحمودَ في معناه العام يُعَدُّ أعلى المقامات التي يمدُّ فيها الإنسانُ يدَهُ بالشفاعة إلى الغير.
في الواقع كانوا يدعونه منذ البداية بـ”محمد، أحمد”. أجل، من المعروف بدايةً أنه صاحب هذا المقام، وكان من علمِ اللهِ تعالى أنّه سيحظى بهذا المقام، ولذا جعله ينالُ هذه الأسماء بالنظر إلى ما سيكون.
في الواقع هذه درجةٌ خاصّةٌ به صلى الله عليه وسلم لم يتبوَّأْها أحدٌ من الأنبياء، فكلُّ نبيٍّ تكلَّمَ مع الله بواسطة أو بغير واسطة؛ إلا أنه لم يُشَرَّفْ أحدٌ من الأنبياء بالمعراج الذي هيَّأَهُ اللهُ لرسولِهِ صلى الله عليه وسلم وفضَّلَهُ به على غيرِهِ من الأنبياءِ.
أجل، إن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو النبي الوحيد الذي اجتمعت فيه الفضائل، وامتازَ على غيره ببعض الخصائص مثل: سماع ضجيج السماء والأرض، ورؤية الجنة والنار، وهكذا فنحن أمة نبي شُرِّفَ بمثلِ هذا المعراجِ الذي رجع منه بهدية ناضرة من قِبَل رب العالمين، وهذه الهدية هي الصلاة، والصلاة معراج المؤمن، تفضل الله بها علينا بأكمل وجهٍ وأروعِ شكلٍ.
النبي ﷺ المرآة العظيمة التي تُجسِّدُ الأدبَ انعكاسًا، وأن يشاهدَ الأدبَ في تلك المرآة بما يتوافق مع قامتِهِ.
إننا نتحدث هنا عن صرح الأدب؛ يعني عن أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما عن السبب الذي جعل مجرى الحديث يتوجَّهُ إلى هذهِ الوجهة فهو الإجابة على سؤال” كيف؟” رغم أنه لا داعي مطلقًا للتفكير عن الكيفية في هذه المسألة، فالجواب واضح وموجَزٌ للغاية: “علينا أن نعامل الناس كيفما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاملهم وعلى النحو الذي أمرنا به”.
ومن ثمّ فمن الأدبِ أن يُطيعَ الإنسانُ ويوقِّرَ الأكبرَ منه ومرشدَه ومعلِّمَهُ وقائدَه ورئيسَه في العمل ما دام هؤلاء يتحرَّون ميزانَ الحقّ، وبشرط ألا يتجاوز في رفع شأنهم، بيد أنه من الخطإ أن نُفكِّرَ في الأدب من جانبٍ واحد، فعلى الكبار والرؤساء أيضًا أن يتعاملوا بأدبٍ مع الصغار والمرؤوسين، وإنما يتأتَّى الأدب الحقيقي بقيام كِلا الطرفين بوظيفة الأدبِ الملقاة على عاتقهما.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يُشارك أصحابه بفعالية في الأعمال التي يجب أن يصاحبهم فيها، كما كان يساعد أهل بيته في أعمال المنزل، لكنه لم يفرض على إنسان قطّ القيامَ بعملٍ دونما اختيار منه،ولم يكلِّفْ أحدًا بعملٍ من أعماله الخاصة رغم أن الصحابة كانوا يتسابقون فيما بينهم للقيام بأيِّ عمل خاصٍّ به صلى الله عليه وسلم، إلا أن المبادرة الأولى كثيرًا ما تكون منه صلوات ربي وسلامه عليه.
فمثلًا: رُوِيَ أنَّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام كان في بعض أسفاره فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: علي ذبحها، وقال آخر: علي سلخها، وقال آخر علي طبخها، فقال صلى الله عليه وسلم: ”وعليّ جمع الحطب”، فقالوا: نحن نكفيك. فقال: “قد علمت أنكم تكفوني ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزًا بين أصحابه”، وقام وجمع الحطبَ .
ولا يخفى على الجميع مشاركته صلى الله عليه وسلم أصحابَهَ في حفر الخندق، وحمله الحجارة عند بناء المسجد، هكذا كانت سلوكياته وتصرُّفاته، وهكذا ربّى أصحابه، من أجل ذلك كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين يتحرَّون العدلَ في كلِّ شيء، ولا ينحرفون عنه قيدَ أنملة، ولا ريب في ذلك فمن علمهم هذا هو معلمهم ومرشدهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ولما سمع عمر رضي الله عنه أن عمرو بن العاص رضي الله عنه لم يستطع أن يراعي تلك الدقة البالغة في هذه المسألة قالَ له قولتَهُ الشهيرةَ: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟” .
لقد استطاعَ هؤلاء أن يُحقِّقُوا هذا التوازنَ بما تعلَّموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يعني أن أمام إنسان اليومِ والغدِ رائدًا للأدَبِ صلى الله عليه وسلم، عليهم أن يتبعوه ويتمثَّلوا بأدبِهِ، ومراعاة هذا الأدبِ يَعِد بخلاص الفردِ والمجتمع.
الأدبُ سجيّة تنالُها الروحُ بفضلِ المبادئ الدينيّة، وبمعنى أوسع هو استقرار يتحقَّقُ للروحِ بامتزاجِها مع الدين.
وإنني لحزين لأنني لم أستطعْ أن أعرضَ هذا الموضوع بكلِّ تفصيلاتِهِ، بل ومن المستحيل عرض ذلك، ولكنني أفكِّرُ لو طالت بنا الحياة أن أتناولَ هذه المسألةَ في مؤلَّفٍ مستقِلٍّ، وما فعلناه هنا هو الإشارة بإيجاز إلى هذا الموضوع ليس إلا.
علاوة على ذلك فقد زودَتْنا مئاتُ المجلدات بمعلومات مستفيضةٍ عن أدبِهِ صلى الله عليه وسلم في ملبسِهِ ومأكلِهِ ومشربِهِ ونومِهِ ويقظتِهِ وحياتِهِ اليوميّة، وإنني في هذا الجانب أُحيلُكم إلى هذه المؤلفات الرائعة، غير أنني أُريدُ أن أنبِّهَ هنا إلى نقطةٍ أخيرة وهي: أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت جزءًا لا ينفكُّ عن الفطرة، عاشَ الحياة على طبيعتِها بأكملِ وجهٍ، والحقُّ أن الحياة النموذجيّة التي يحياها كلُّ إنسان بكلِّ رضا هي هذه الحياة الطبيعية الفطرية، وبهذه الحياة تنجو جميع الإنسانية، وكما قلتُ آنفًا: الأدبُ هو نظامٌ وانتظامٌ وتناغمٌ يحيطُ الحياةَ بكلِّ جوانِبِها، وقد ضربَ لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أروعَ الأمثلة في هذا الميدان.