سؤال: يرد مصطلح النوابغ في مؤلّفاتكم ودروسكم، فما المقصود بهذا المصطلح؟ وما الأمور التي لا بدّ من مراعاتها من أجل انكشاف قابليّات مثل هؤلاء الناس؟
الجواب: يُقصد بالنوابغ هذه العقول التي تسعى إلى فهم الأشياء والأحداث والكون والإنسان والمجتمع والعصر الذي يعيشون فيه، وتبذل وسعَها لنقل هذه المعلومات النظرية التي فهمتها إلى الواقع المعيش؛ وفي هذا السبيل تفكِّرُ وتدقق وتبحث باستمرار، ولما كان يدفع هؤلاء عشقُ الحقيقة وحبُّ العلم والولعُ بالبحث استطاعوا أن يحلوا -بفضل من الله وعنايته- المشاكلَ التي انكبّوا على حلّها، وأن يُحرزوا الكثير من النجاحات، وأن يكونوا وسيلةً لإنارة المجتمع الذي يعيشون فيه.
السلاطين العثمانيّون كانوا إذا اكتشفوا صاحب موهبةٍ عبقريّةٍ سارعوا وسعوا من أجل اكتسابه والفوز به.
القابليات وسيلة امتحان
غير أنّ مَن أحرزوا مثل هذا المستوى يتعرّضون لمخاطر جدّية، فمثلًا يُداخلهم وَهمٌ بأنهم متميّزون عن غيرهم، فيعتقدون -اعتمادًا على قدراتهم ومهاراتهم- أنّ باستطاعتهم حلَّ جميع المشاكل التي يقابلونها والتغلّب عليها بذكائهم وقابلياتهم، وبسبب هذه الحالة يستبدون برأيهم، أو يتعاملون بخشونة وغلظة واستغناءٍ مع الأفكار والمقترحات الأخرى لأنهم يرغبون في التأكيد على عِظم أفضليتهم؛ بمعنى آخر: فإن انفتاح هؤلاء أكثر من غيرهم على آفاق عالية في بعض المسائل قد يجعلهم ينظرون إلى غيرهم باستعلاء ويستخفون بآراء غيرهم، بل إنهم ربما يُنمّون في أنفسهم صفة التمرّد، ويلجؤون إلى الاعتراض على الفور، حتى وإن طُرحت عليهم أفكارٌ عقلانية ناشئة عن تفكّرٍ عميق، وينسون أن الحقّ يعلو ولا يُعلى عليه.
الإنسان حين يرى إنسانًا قديرًا كفؤًا يُفني عمره في سبيل أنانيته لاهِثًا وراء الأهواء والنزوات يعجز ألا يتحسّر عليه.
والحق أن مثل هذه الانحرافات ناجمةٌ عن قصورٍ في التربية، فالمعلّمون قديمًا كانوا مربّين حقيقيّن في الوقت ذاته؛ بمعنى أنهم كانوا قدوةً حسنة لمَن حولهم في جلوسهم ونهوضهم ووقوفهم واعتقاداتهم وأفكارهم ورؤاهم العامة؛ كانوا يربونهم بلسان حالهم، ولكن من الصعب جدًّا أن نقول: إن التعليم في النظام التعليمي اليوم يسير مع التربية كفرسَي رهان، وهذا الحال لا يمكن أن يجبر القصور في التربية حتى وإن كان التعليم في مستوى متقدِّم عنها، فالتربية تعني الارتقاء بالإنسان العادي إلى الإنسانية الحقّة، فعلى المربين المثاليّين أن يكونوا على مستوى يستطيعون من خلاله إقامة صرح إنسانيٍّ وكأنهم نحّاتون مهرة، فإن لم يَتَتَلْمَذ النوابغ على أيدي مربّين جيّدين ولم يخضعوا لتأثيرهم فمن الصعب جدًّا أن ينسلخوا عن فكرة “أنا أعلم الناس”، أو استيعاب فكرة الاستفادة من الآخرين.
المقهورون تحت الأنانية
وقد حدّثْتكم من قبل في مناسباتٍ شتى عن موقفٍ لبطلٍ من الأبطال الذين يشلكون الرعيل الأول؛ ممّن قاموا -طوال حياتهم- بخدمة الأستاذ النورسي رحمه الله رحمة واسعة، كيف أنّه في مجلسٍ ما خالفَ أحدهم رأي هذا البطل الكريم، فقال له والابتسامة تعلو شفتيه “حقًّا يا أخي، ربّما يكون الحقّ معك”؛ وذلك لأنه أدرك أن مخاطبه ليس في حالةٍ روحيّةٍ تسمح له بالاعتراف بالحقيقة وفهمِ ما يُقال، ولكن لما شاهد المعترض بعد مدّةٍ فساد رأيه في عديدٍ من المواطن جاء إلى هذا الرجل العظيم وقال له هذه المرة: “سيدي، لقد أخطأتُ الرأي، فلقد كان الحقّ معك في ذلك اليوم”، وإذ بهذا السيد الكبير يقول له دون أن يغيّر من طوره: “لا ضيرَ يا أخي لا ضير”.
ولقد قابلت أنا أيضًا مثل هذه الحادثة كثيرًا، غير أنني في كلّ مرّةٍ كنت أتجاوزها، لأن مثل هؤلاء الناس يظنون أن عقولهم قد بلغت كلّ مسألة، فيعترضون على كل شيء، ففي هذه الحالة عليكم أن تتركوا المسألة للوقت، حتى لا تتفاقم المشكلة، وينفضّ الناس من حولكم، والتاريخ حافلٌ بكثيرٍ من هذه الأمثلة المريرة، على سبيل المثال “هتلر”، كان يتمتّع بشيءٍ من المهارات، ممّا دفعه إلى الإعراض عن الدخول في قالب معين أو إلقاء السمع لأيّ نصيحة؛ لأن مرض الاستعلاء قد استولى عليه، وفي النهاية عرّض أمةً عظيمةً للهزيمة في سبيل مجازفة من مجازفاته، وما زال شعبه يلعنه حتى يومنا هذا.
إن لم يَتَتَلْمَذ النوابغ على أيدي مربّين جيّدين ولم يخضعوا لتأثيرهم فمن الصعب جدًّا أن ينسلخوا عن فكرة “أنا أعلم الناس”.
تنشئة النوابغ يتطلّب اهتمامًا خاصًا
إن السبيل الوحيد لحماية الناس من مثل هذه الصفة التمردية الخاطئة هو ضمان امتثالهم للمجتمع عبر تربيتهم وتأهيلهم؛ إذ ينبغي بيانُ أهمية الوفاق والاتفاق لهم باستخدام أساليب ومناهج متنوعة عبر إيجادِ وسيلة ملائمة لذلك، ومن الضروي القول: إن مزيدَ عناية الحق تعالى ورعايته مرتبطٌ بهذا الأمر، ولا بدّ من التأكيد على أنّه من الفضيلةِ أن يتخلّى الإنسان عن فكره الشخصي -مهما كان دقيقًا وصائبًا- حفاظًا منه على التناغم والانسجام العام.
ومع ذلك فإن تركَ مثل أولئك الناس يعيشون مع أخطائهم الخاصّة بهم في مسائلهم الشخصية التي لا تتعلّق بحقوق العامة؛ قد يكون -في بعض الأحيان- سبيلًا مفيدًا من أجل تربيتهم؛ فليتمادوا بقدر ما يستطيعون، وليتخبّطوا ثم ليرجعوا إلى أنفسهم فيقولون: “لقد كنتم على صوابٍ!” وذلك لأن ضمان إدراك الأشخاص أخطاءهم بإرادتهم الشخصية والحرّة أمرٌ مهمٌّ جدًّا في تربية الإنسان وتنشئته.
على المربين المثاليّين أن يكونوا على مستوى يستطيعون من خلاله إقامة صرح إنسانيٍّ وكأنهم نحّاتون مهرة.
والإنسان حين يرى إنسانًا قديرًا كفؤًا يُفني عمره في سبيل أنانيته لاهِثًا وراء الأهواء والنزوات يعجز ألا يتحسّر عليه ويقول بشأنه: “ليته!” ليت الأشخاص العوالي الهمم، المدركة عقولهم مختلف المسائل، القادرين على حلّ المشكلات، الشجعان المقدامين -ليتهم- يستخدمون قواهم وقدراتهم وملكاتهم ومواهبهم هذه من أجل إعلاء شأن الدين الإسلامي المبين، وفي سبيل بيان ثقافتنا الأمميّة بدلًا من السعي إلى إثبات النفس والاعتراض على هذا وذاك؛ ذلك لأن النوابغ التي تستخدم ما وهبها الله تعالى من قدرات ومواهب بشكلٍ متلائمٍ مع الهيئة التي تتواجد فيها في سبيل الوصول إلى غايةٍ ساميةٍ؛ بوسعها أن تتسبّب في إنجاز عديدٍ من الأعمال والأنشطة النافعة.
التربية تعني الارتقاء بالإنسان العادي إلى الإنسانية الحقّة.
ومن ثم فإنّ مسؤوليّةً كبيرة تقع على عاتق الأشخاص والأفراد الذين يدفعونهم ويتولّون أمرهم. أجل، ينبغي لمن هم في موقع الإدارة أن يبذلوا جهدًا حقيقيًّا وكبيرًا بغيةَ اكتساب هذه النوعية من الناس، وضمان عملهم على نحوٍ يتلاءم مع المجتمع الذي يعيشون فيه، والاستفادة من مواهبهم بهذه الطريقة؛ فإن كان هؤلاء الأفراد الأفذاذ سيضطلعون بعمل عشرة أشخاص وجبَ على المسؤولين القائمين على أمرهم أن يخصّصوا لهم من الوقت والجهد ما يخصّصونه لعشرة أشخاص -إن لزم الأمر-؛ فقد بذل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم جهدًا حقيقيًّا وعظيمًا -كما هو معلوم- كي يَدخُلَ الإسلامَ أصحابُ القدرات والمؤهّلات الفريدة من أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة؛ فصقل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه النوعية من المواهب والكفاءات التي كانت ذات مكانةٍ مرموقةٍ في المجتمع الجاهلي وعجنها وأولاها اهتمامًا خاصًّا، ثم ترك أمرها للدين، وبالطبع فقد صار كل واحدٍ من سادتنا الصحابة هؤلاء وسيلةً في تحقّق الكثير من الخدمات العظيمة الجليلة بالنسبة للإسلام.
المعلّمون قديمًا كانوا مربّين حقيقيّن؛ بمعنى أنهم كانوا قدوةً حسنة لمَن حولهم في جلوسهم ونهوضهم ووقوفهم واعتقاداتهم وأفكارهم ورؤاهم العامة.
وإذا نظرتم إلى التاريخ العثمانيّ وجدتم أن السلاطين العثمانيّين كانوا إذا ما اكتشفوا صاحب موهبةٍ عبقريّةٍ سارعوا وسعوا من أجل اكتسابه والفوز به؛ وقد اكتشف إداريُّو ذلك العصر بفضل فراستهم وحدسهم المواهبَ وشجعوها حتى وإن كانت من ثقافاتٍ وأديان مختلفة، وبحثوا عن الطرق والسبل المؤدية إلى الفوز بهم، وفي ظلّ هذا دخل الإسلامَ أمثال “زاغنوس (Zağanos)” و”أفرنوس (Evrenos)” و”غازي ميخال (Gazi Mihal)” و”المعمار سنان (Mimar Sinan)” و”صوقوللو (Sokullu)” -جزاهم الله خير الجزاء-، ودخلوا تحت إمرة الدولة العثمانية، وخدموا الإنسانية طيلة عمرهم؛ فكان من بين هؤلاء القائد والصدر الأعظم -رئيس الوزراء في عصرنا- والمعماري، فأدّوا خدمات نافعةً ومفيدة جدًّا لأمتنا.
النوابغ هم العقول التي تسعى لفهم الأحداث والكون والإنسان والمجتمع والعصر الذي يعيشون فيه، وتبذل وسعَها لنقل المعلومات النظرية التي فهمتها إلى الواقع المعيش.
ومن الواجب البحث -دون إفراطٍ ولا تفريطٍ- عن طرق اكتساب النوابغ باسترضائها وتشجيعها والاحتفاء بها ومكافأتها بشكل مناسب؛ إذ إن التصرّف على هذا النحو خلقٌ إلهيٌّ في الأساس؛ لأننا نشاهد في شؤون الله الجليلة أنه لا يترك جلّ جلاله أيَّ نجاحٍ دون أن يكافئ ويثيب عليه، وما يلزم القيام به من هذه الناحية هو مكافأة وتقدير النوابغ من أجل اكتشاف المواهب والنوابغ المختلفة من جانب، وإثارة مشاعر وفكرة نفع البشرية في أرواحها من جانبٍ آخر.