إن المعصية عنوان على إساءة الأدب مع الله، واتخاذ موقف سلبي تجاه أوامره ونواهيه، لكنها -في الوقت نفسه- من مقتضى الفطرة الإنسانية، كأن أحدهما جزء من الآخر ولا يفارقه.
”الأبرار” اسم يطلق على المرشحين للوصول إلى القمة في طريق الوصول إلى الله.
وأما التوبة فهي الأمر الوحيد الذي يلجأ إليه العصاة، كما أنه عملية رجوع الإنسان إلى ذاته، وليس من الصواب اعتبار كل المرتكبين للمعاصي في مستوى واحد وجمعُهم في كفة واحدة؛ فمنهم من يعيش حياته بالمعاصي وهو مرتاح لهذا النمط من الحياة، كما أن منهم من يشعر بالندم ويرتجف فؤاده بل ويتفطر قلبه وينكسر، وتضيق عليه الأرض بما رحبت، ويعيش حالة من الاختناق بسبب ما يشعر به من هذا الضيق.
لا يُتصور أن الله الخالق لا يستجيب لصرخات التائبين، وهو الذي يلبي نداء من يناديه، ويهرول نحو من يأتي إليه ماشيًا.
فالإنسان العاصي سواء كان من الفئة الأولى أو الثانية إذا لاذ بالتوبة ورفع أكف الضراعة إلى الله الذي يعتبره الملجأ والمنجى الوحيد، وطلب منه تعالى المغفرة فإن الله سيغفر له.. فقد ثبت في كثير من الآيات والأحاديث أن الله تعالى قد غفر وسيغفر للعبد الذي يتوجه إليه. أجل، إنه غفار لمن تاب، وقد سبقت رحمتُه عضبه.
ففي القرآن الكريم عديد من الآيات تشير إلى هذه الحقيقة، وأظن أنه لا يوجد أحد يرى تلك اللوحات التي ترسمها هذه الآيات، ثم يتمالك نفسه من البكاء، وبالأحرى أستصعب في ذهني أن أتصور أن هناك إنسانًا ذا قلب مؤمن حي لا يتوجه نحو باب مولاه تعالى ثم يتخيل نفسه في مكان ذلك المجرم الذي ترسمه تلك الآيات.
المقربون هم الخواص الذين حظوا بمعية الله تعالى.
فمثلًا قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/193).
فهذه صرخات المنكسرة قلوبهم الذين ضاقوا ذرعًا بذنوبهم، وسئموا من معاصيهم، فأكثر ما يلفت الأنظار هنا من التعبيرات، هو طلب الذين يرجون المغفرة أن يكونوا من “الأبرار”، فـ”الأبرار” اسم يطلق على المرشحين للوصول إلى القمة في طريق الوصول إلى الله، وبعد ذلك بخطوة هناك مقام المقربين، فالمقربون هم الخواص الذين حظوا بمعية الله تعالى.. فمن هذا المنظور إذا كان النبي من المقربين -وهو كذلك-، فإن أصحابه إنما هم من الأبرار، وبين هؤلاء فروق في العموم والخصوص، وكما يقال “حسنات الأبرار سيئات المقربين”؛ ومن حيث إن الذين انغمسوا في الخطايا قد يكون من الصعب عليهم أن يرتقوا إلى مستوى المقربين -وإن لم يكن مستحيلًا-، فإنهم يطلبون أن يكونوا من الأبرار.
وتُواصِل الآية قائلةً: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/194).
ليس من الصواب اعتبار كل المرتكبين للمعاصي في مستوى واحد وجمعُهم في كفة واحدة.
أجل، إنه لا يُتصور أن لا يستجيب الخالق ذو الجلال لهذه الصرخات وهو الذي يلبي نداء من يناديه، ويهرول نحو من يأتي إليه ماشيًا كما ورد في الحديث القدسي ، فهو الذي استجاب لعباده هؤلاء الذين توجهوا إليه بإخلاص:
﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/195).
وهناك أمر آخر في هذه الآية الأخيرة غير قضية استجابة الله لدعائهم وقبولِه لتوبتهم، وهو أن الله تعالى من خلال الحديث عن استجابته دعاءهم يُذكِّر الناس بما ينبغي عليهم فعله من التصرفات، وهي المجالدة والمجاهدة في سبيل الله والتضحية في سبيل ذلك -إن اقتضى الأمر- بالهجرة والقتال وغيرهما.
المعصية عنوان على إساءة الأدب مع الله، واتخاذ موقف سلبي تجاه أوامره ونواهيه، لكنها من مقتضى الفطرة الإنسانية، كأن أحدهما جزء من الآخر ولا يفارقه.
أجل، إنه، من جانبٍ، يلاطف القلوب التائبة المنيبة، ويقبل دعاءهم ولا يخيب حسن ظنهم، ومن جانب آخر، يُذكِّرهم بوظائفهم ويدعوهم إلى الصراط المستقيم، وهكذا فإن الذين ارتكبوا المعاصي ودخلوا في حالة من اليأس والقنوط؛ فإما عَزَلَهُم المجتمع أو انعزلوا هم بأنفسهم عنه، واستسلموا للأمر الواقع وخارت عزائمهم، فهؤلاء يسترجعون حيويتهم مرة أخرى بما يسمعونه من هذه التعبيرات القرآنية، وينجون من الغرق في مستنقعات اليأس، فيراجعون حساباتهم مرة أخرى ويصبحون أفرادًا صالحين في مجتمعاتهم.