Reader Mode

﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾(القَصَص:77)

فهمت هذه الآية الكريمة من قبل الكثيرين على أنها تشير إلى طلب الدنيا على الدوام. ولكن من يعرف شيئا قليلا من اللغة العربية يعرف خطأ هذا الرأي. فمن يدقق في سياق الآية وبدايتها يرى المعنى الآتي:
تقول الآية ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ اْلآخِرَةَ﴾، أي اجعل كل ما أعطاك الله وسيلة للدار الآخرة. وفعل “وابتغ”هنا يعني شيئا أكثر من “واطلب”، لأنه يعني: اطلب واستعمل ما آتاك الله من قلب وحس وشعور وإدراك وصحة ومال وولد… الخ -بل وحتى كل استعداداتك الفعلية والكامنة- واستخدمها في طلب الدار الآخرة. ثم تأتي الآية ﴿وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ لموازنة المسألة. أجل علينا أن نضع الغد وما بعد الغد أمام أنظارنا على الدوام، وفي الوقت نفسه لا ننسى ما يعود للدنيا من أمور وأشياء. إذن فتناول الشق الثاني من الآية فقط وتوجيه الأنظار إلى الدنيا فقط وجعلها هي وحدها محور النشاط خطأ فاحش. لأن مثل هذا المعنى يتعارض مع الآية الكريمة ﴿إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الْجَّنّةُ﴾ (التوبة: 111). ومن يقل به يجعل القرآن كتابا ينقض بعضه بعضا والعياذ بالله.

يجب امتلاك الدنيا باسم الحق وخدمة الأمة، وأن تدور الحياة حول محور الآخرة على الدوام.

ويمكن النظر إلى هذه الآية من زاوية أخرى: اطلبوا الدنيا حسب قيمتها، واطلبوا الآخرة حسب قيمتها. يمكن أن يكون هذا قاعدة من القواعد. إذن فالقرآن يعطي الإنسان بهذه الآية مقياسا، ويطلب منه استعماله.
أجل!… يجب فهم الآية بهذا المعنى. لأن الدنيا حسب القلوب المطمئنة كيوم عرفات. والأيام الماضية للدنيا بالنسبة للعيد كيوم عرفات. أما العيد الحقيقي فوراء الأفق بل وراء وراء الأفق. لذا يجب المحافظة على هذا التوازن وصيانته، وعيش يوم عرفة حق عيشه. ومن يفقد يوم عرفة في الحج يستطيع إدراكه بعد عام واحد، ولكن من يفقد يوم عرفة الآخرة -عندما نشبه هذا اليوم بالحياة الدنيا- وفاته ذلك اليوم فلن يستطيع إدراكه مرة أخرى.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث له: “ما لي وما للدنيا. ما أنا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح فتركها”.
ولو تأملنا لرأينا أن ترك الدنيا ونبذها تماما غير مطلوب كما أن اعتبارها كل شيء غير مطلوب كذلك. وفي حديث آخر: “لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء”.
فما كان لكافر ينكر وجود الله وينكر يوم القيامة أن يتمتع بنعم الله تعالى. فهذا مغاير للعدل الإلهي. ولكن هناك عالم أبدي وراء هذا العالم، ومقابل العقاب الذي سيلاقونه هناك، لا يريد الله تعكير صفو حياتهم في هذه الدنيا ويتجلى برحمته عليهم فلا ينقص من سعادتهم شيئا هنا.
ونظرة الأستاذ سـعيد النورسي للموضوع هي: “إن نتيجة الايمان بالله ومحبته سبحانه هي: رؤية جمال مقدس وكمال منـزّه للذات الجليلة سبحانه وتعالى.. هذه الرؤية التي تساوي ساعة منها ألف ألف سنة من نعيم الجنـة.. ذلك النعيم الذي سـاعة منه تفوق ألف ألف سـنة من حياة الدنيـا الهنيئة، كما هو ثابت لدى أهل العلم والكشف بالاتفاق”.

إن جانب كون الدنيا مرآة مجلوة لتجلي الأسماء الإلهية يجعل الدنيا شيئا ثمينا جدا، بل يجعلها لا تقدر بثمن، ونحن نحب الدنيا من هذا الجانب.

هذه هي الحياة التي نطلبها ونسعى إليها. إذن فما قيمة الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة لكي نوازن بينها وبين الآخرة؟. متوسط الحياة الدنيوية هو ستون عاما، يمضي ثلثه في النوم… فما قيمة مثل هذه الحياة؟ لذا فالخروج من هذا الإطار وإعطاء الحياة الدنيوية قيمة أكثر مما تستحق والقول: “هذه هي قيمة الحياة في الدنيا، وهذه هي قيمة الحياة في الآخرة”ليس إلا تعبيراً عن عدم فهمنا للنصوص.
وهناك التفاتة من قبل الأستاذ النورسي في هذا الموضوع لم أرها عند أحد غيره. فهو يقول إن للدنيا ثلاثة أوجه: الوجه الأول متوجه للأسماء الإلهية الحسنى، والثاني متوجه نحو أهواء الإنسان وشهواته. والوجه الثالث هو الوجه المتوجه نحو كسب الحياة الآخرة. وهي التفاتة عميقة.
إن جانب كون الدنيا مرآة مجلوة لتجلي الأسماء الإلهية يجعل الدنيا شيئا ثمينا جدا، بل يجعلها لا تقدر بثمن، ونحن نحب الدنيا من هذا الجانب، بل نعشقها. ولو لم تكن الدنيا مزرعة للآخرة لما كنا مرشحين للحياة الأخروية، وما كنا من أهلها، ولما كسبناها. والدنيا من هذا الوجه أيضا جنة وبستان. أما وجه الدنيا المطل على أهواء النفس وشهواتها، فهو أقبح من كل قبيح. أي إن الإنسان إن كان متعلقا بأهواء نفسه ورغباتها، ونسي الآخرة لهذا السبب فالدنيا في هذه الحالة مذمومة.
هناك تقييم آخر للأستاذ النورسي حول الدنيا. فهو يقول: يجب ترك هذه الدنيا قلبياً وليس كسبياً. وهذا الذي يقوله النورسي يجعلنا نقترب أكثر لنرى عدم وجود أي خصام لنا مع الدنيا، ولا يمكن أن يكون. أجل إن عمل الإنسان وفق هذا الإطار استطاع أن يربح ويكسب مثل أهل الدنيا وإن كان غنياً مثل قارون… ولكن عندما تقتضي الضرورة عليه أن ينفق كُلَّ ما اكتسبه في سبيل الله، تماماً مثل ما فعل عبد الرحمن بن عوف حيث أنفق سبعمائة بعير مع أحمالها في سبيل الله. ولم يقل له الرسول شيئا ولم يعنفه أو يوبخه لغناه. ولكنه نبهه فقط حول وجوب إعطاء حق هذا الغنى ثم بشره وشوقه. هناك قصة رمزية حول النبي إبراهيم عليه السلام ورد فيها أن الملائكة قالت مستفسرة من رب العزة: يا رب أنت تقول عن إبراهيم عليه السلام إنه خليلك. ونحن نريد أن نعرف أتتلاءم وتتوافق الخلة مع الثروة والغنى؟ فقال لهم ربهم: اذهبوا وامتحنوه. فذهب الملائكة إلى إبراهيم عليه السلام وهم في هيئة من أتى من سفر بعيد مضنٍ، وبملابس رثة وأخبروه أنهم جياع. فقام إبراهيم عليه السلام وذبح لهم شاة، وعندما قربها إليهم ومد الملائكة أيديهم ذكروا -بدلا من بسم الله- دعاءً خاصاً بالملائكة وهو: “سُبّوحٌ قدّوسٌ، رَبّ الملائكة والرُّوح”، ويسحر هذا التسبيح ذلك القلب المؤيد بالوحي إلى درجة يدفعه للتوسـل إليهم: “ليكن ربع أغنامي لكم إن قمتم بتكرار هذا التسبيح”. فكرر الملائكة، فقال إبراهيم عليه السلام: “ليكن لكم نصف أغنامي إن كررتم التسبيح”… وهكذا حتى يهب في المرة الرابعة جميع أغنامه لهم. إذن فالنبي إبراهيم عليه السلام -إن صدقت هذه الرواية- لم يكن تاركاً الدنيا كسباً، بل قلباً.
والحقيقة لا يمكن رؤية أي بيان صريح لسـيد الأنبياء في ذم الغنى والمال والملك بالمعنى المطلق. صحيح هناك بعض الإسـتثناءات، ولكنها متعلقة بالأوضاع الخاصة لبعض الأشخاص. فإن سُئل عن عدم غنى الرسول صلىوسلما فنقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء من عائلة فقيرة. ولو كان غنياً بعد أن أصبح نبياً وممثلاً لدعوة عظيمة وسامية لربما كان غناه هذا يلقي ظلا على دعوته. ويثار سؤال: “من أين لك هذا؟”. وقد يؤدي هذا إلى اهتزاز ثقة أصحاب النيات الصافية. لذا رجح الرسول صلىوسلم -من زاوية دعوته بشكل إرادي، أو بجبر ولطف قدري- الفقر على الدوام… هذه هي زاوية النظر التي يجب أن ننظر من خلالها إلى الرسول صلىوسلمن وإلى العلماء والأولياء والأصفياء الذين جاءوا من بعده.
والخلاصة أنه يجب ترك الدنيا قلبياً وليس كسبياً. يجب ألا تدخل الدنيا إلى قلوبنا وآلا تسكرنا، أو تعكر نظرنا، أو تنسينا الآخرة. فإن حققنا هذا ملكناها وحكمناها. وإلا حكمتنا الدنيا وعشنا حياة خالية من الشـعور والإحساس، كل دقيقة فيها هباءٌ في هباء.

ترك الدنيا ونبذها تماما غير مطلوب كما أن اعتبارها كل شيء غير مطلوب كذلك.

هناك أشياء كثيرة تقوي وتغذي إرادتنا للفوز في هذا الامتحان، ومن الضروري تماماً تحريكها وتشغيلها،وجعلها فعالة. فمثلاً معرفة الله عامل مهم جداً في تقوية الإرادة والإيمان. وإذا كان لنا أن نوضح هذا بمثل نقول: لنفرض أنك تريد أن تحيا حياة المترفين، وبدأت بترتيب أمورك على هذا الأساس، ثم دخلت في سعي محموم لرفع مستوى حياتك. في هذه الأثناء تسرع معرفة الله لنجدتك. هنا أود ذكر حادثة وقعت لأحدهم. ومن يدري فقد لا تجدون في ما سأذكره شيئاً موضوعياً. ومع ذلك فسأذكرها. صحب أحدهم هذا الشخص إلى بيته وجلسا في الشرفة المطلة على البحر. في تلك اللحظة وقعت في قلبه رغبة شديدة في العيش في مثل هذا المكان الجميل. ويشهد أصدقاؤه بأنه قام فجأة من مكانه، وغادر المكان عازفاً عن الجلوس في هذه الشرفة. لأن ذلك المنظر الجميل الخلاب غذى شعور طول الأمل عنده، وإلى توهم الأبدية والخلود، لذا تهب معرفة الله لنجدته وتذكره بأن دقيقة واحدة من تأمل الجمال الإلهي يعادل آلاف السنوات من العيش السعيد في الجنة، وتخلصه من تلك الورطة.

القاعدة: اطلبوا الدنيا حسب قيمتها، واطلبوا الآخرة حسب قيمتها. 

لذا ففهم آية ﴿وَلاَ تَنْسَى نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ كما يريده البعض لا ينسجم مع المفهوم الكلي للقرآن الكريم. وأنا أرى أن الإنسان يجب أن يحس بالشوق للبقاء في الدنيا، ولكن بشرط العيش فيها حياة مليئة كحياة الأستاذ النورسي، وأن يكون مرتبطا بفكر ورغبة إيصال أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الكمالات الإنسانية. يجب امتلاك الدنيا باسم الحق وخدمة الأمة ولكن الحياة يجب أن تكون حول محور الآخرة على الدوام. ومثل هذه الحياة الدائرة حول محور الآخرة تُبقي الفرد ضمن الكسب الحلال على الدوام وضمن اللذة المباحة. ومن المعلوم أن الكسب غير المشروع، واللذة غير المشروعة تجلب معها على الدوام آلافاً من الآلام في الوقت نفسه.
ولنختم هذا الموضوع بحديث خاتم المرسلين صلىوسلمر : “فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت. فوَالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار”.
صلى الله عليه وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وعلى الملائكة المقرَّبِين وعلى عباد الله الصالحين.

المصدر: أضواء قرآنية في سماء الوجدان

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts