يجب على المؤمن أن يعرف حدّه ولا يتجاوزه، أيًّا كانت النجاحات التي حققها، ويشير الأستاذ النورسي رحمه الله رحمة واسعة إلى هذه الحقيقة التي يؤكّد عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “طُوبَى لِمَنْ عَرَفَ حَدَّهُ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ طَوْرَهُ”[1].
غير أن هذا يتأتّى من إدراك الإنسان بأنه خُلقَ من لحم ودم، وأن ماهيته قد عُجنت بالعجز والفقر، فضلًا عن ذلك ينبغي للإنسان أن يتعمّق أكثر في تفكيره، وأن يراعي أنه تلطّخ بالأرجاس التي يمكن أن نصفها بالبلوى العامة، وأنه غرق في الذنوب حتى أذنيه، ومن ثمّ عليه أن يقول:
أنا إنسان لا حيلةَ لي؛ بمعنى أن الله تعالى قد تكرّم عليّ بكلّ هذه الأفضال والإحسانات بمحض قدرته ورحمته الواسعة، فلو فكّر الإنسان على هذه الشاكلة، وتوجّه إلى ربّه بتوحيدٍ خالص، فلن تساورَه الأوهام التي تجاوزُه حدّه، وسيُديم الله تعالى عليه نِعَمه لأن ذلك الإنسان قد أدرك أن الله تعالى هو مصدر كلّ نعمةٍ يُتنعّم بها.
وينبغي ألا يغيب عن عقل الإنسان ما اقترفه من ذنوبٍ وآثام حتى يعي أن نفسه لا يُؤمَن لها ولا يُعوَّل عليها؛ وبذلك لا يأخذه الغرور والكبر طالما أنه على وعي بالجرم الذي ارتكبه، دَعْ عنك الكبر والغرور، إنه -علاوةً على ذلك- ينظر إلى نفسه نظرة الإنسان المجرم على الدوام، وينظر إلى الأعمال الخيرة في الظاهر على أن الله تعالى قد يجري أمثالها على يد الرجل الفاجر؛ وعندها يقول في نفسه: “أنا إنسان لا حول لي ولا قوة، ولكن الله تعالى يجري النفع على يد مَن لا يُرجى منه ذلك”، وعليه ألّا يكفّ عن مساءلة نفسه ومحاسبتها دائمًا بوسائل شتّى.
ولا يدفع هذا الإنسانَ إلى أن يعتقد أنه لا بدّ من اقتراف ذنبٍ حتى يتخلّص من مثل هذه الأوهام، لأن الأخطاء التي نقترفها دون وعيٍ أو سابق إصرارٍ -مثل الاستماع إلى الذنوب والإقدام على ارتكاب خطإٍ ما- تُعدّ بمثابة رأس مالٍ كافٍ لندرك أن النفس لا يوثق بها، المهم هو الاستفادة من هذه الأخطاء، فإذا ما تاب الإنسان إلى ربّه ألف مرّةٍ، واستحضر الخطأ الذي ارتكبه دائمًا بين عينيه فلن ينسِب إلى نفسه أبدًا النتائج التي تفضّل الله تعالى عليه بها جرّاء العمل والجهد، وسيشعر يقينًا أن هذه النتائج هي لطفٌ من ألطاف الله.
أما الأمر الذي تجب مراعاته عند هذه المحاسبة الراقية: فهو أن الشيطان قد يعمل على تعظيم الجرم لصاحبه حتى يبعده عن ربّه عز وجل، ويحاول أن يخدعه قائلًا: “لن تستطيع أن تتّجه إلى ربّك وأنت محمّلٌ بهذا الجرم”، ومن ثمّ فعلى الإنسان في مثل هذه الأحوال أن يتوسّل بكلّ السبل التي تساعده على التطهّر من ذنوبه، ولا يقنط في الوقت ذاته من رحمة الله تعالى، بل يقول: “جرمي كبير، ولكن قلبي لك عاشق”، لا بدّ ألّا تمنعه ذنوبه من التوجّه إلى ربّه والتطلّع إلى لطفه وعنايته وفضله ومشاهدة شؤونه سبحانه وتعالى، وحتى إن اعتقد أن هذه الذنوب قد أبعدته كثيرًا عن ربّه فعليه أن يَسْبح بأفكاره ومشاعره حول القرب منه سبحانه وتعالى، وإن غرق الإنسان حتى أذنيه في الآثام وليس إلى ساقيه أو ركبتيه فعليه أن يتوجّه أيضًا إلى الله تعالى السلطان الأوحد لدائرة الربوبية والألوهية، وإلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم داعٍ في هذه الدائرة، وأن يفنى في حبّهما، ولا يبرح ذلك الباب أبدًا، وقد يبدو هذا تناقضًا من ناحيةٍ ما، لكن يجب على المؤمن أن يقيم توازنًا بين هذه التناقضات في حياته.
المصدر: كتاب جهود التجديد.