سؤال: كان علماؤنا يدعون اللّه قائلين: “اللّهم اغفر لنا خطايانا، واقبلنا في عبادك، واجعلنا أُمَناءَ على ما أمّنته عندنا إلى يوم لقائك”، فهل يُقصد بالأمانة هنا النفس فقط، وما تفسير كلمة “الأمانة” في ضوء الوظيفة والمسؤولية التي نحملها على عاتقنا؟
الجواب: إن العطايا الأولى التي منحها الله للإنسان هي أمانةٌ لديه، فإذا ما أعطى الإنسانُ إرادته حقها وأحسن استغلالَ تلك العطايا الأولى فتحصّل على بعض المكتسبات، فإن هذه المكتسبات هي أمانات لديه أيضًا؛ لأن الفاعل الحقيقي لما اكتسبه الإنسان هو الله، غير أنه انطلاقًا من القاعدة الكلية التي تندرج ضمن النظم الحقوقية: “إذا اجتمع المباشر والمتسبب يضاف الحكم إلى المباشر”[1]؛ فإننا قد نعزو إلى الإنسان بعضَ الأشياء التي اكتسبها باستغلاله لإرادته حتى وإن لم تكن ثمة علاقة وفقًا لقانون السبب والننتيجة بينه وبين هذه المكتسبات.
وعلى ذلك فكما أن عطايا الله نعمة، فكذلك المكتسبات التي يحققها الإنسان بناءً على إعطائه إرادته حقها تندرج أيضًا ضمن قائمة النعم، فإذا ما تبنى الإنسان هذه الفكرة أدرك يد القدرة المطلقة في أول وآخر وظاهر وباطن كل هذه النعم التي حظي بها نتيجة إعطائه إرادته حقها، وسيجيش صدره بمشاعر الحمد والثناء على الله الذي أنعم عليه بكل هذه النعم.
إنَّ الوظيفةَ الملقاة على عاتقنا الآن هي المحافظة على هذه الخدمة الإيمانية دون تعريضها لأيّ خلل أو قصور والمواظبةُ عليها دون تباطؤ، وتوصيلُها إلى مكانها الصحيح.
أجل، عندما يُفكّر الإنسان بكل هذه النعم سيشعر بشدٍّ معنوي حقيقي، وتُسيطر عليه مشاعر الشكر والامتنان لمولاه سبحانه وتعالى، بل سيُصبح الحمدُ النفَسَ الذي يتنفس به، ويشعر بهزة عنيفة في كل جنباته، من رأسه حتى أخمص قدميه.
الإيمان هو أعظم أمانة
وانطلاقًا من هذا المنظور فإنّ إطار الأمانة يسع الكثير من المعاني؛ فمثلًا حياتنا أمانة، وأعظم من حياتنا الإيمان والإحسان ومعرفة الله ومحبة الله؛ تلك النعم العظيمة التي تحمل نوى الحياة الأبدية، فإن فقدَ الإنسانُ إيمانَه عاش حقبةً زمنية معيّنة مثل باقي المخلوقات، وحكمَ على نفسه بالعدم والفناء؛ لأن الفوز بالخلود منوطٌ بالإيمان، وعلى ذلك فمهما شيّدَ الإنسانُ الأسوارَ حوله، وبذل ما بذل من سعي، وأجرى ما أجرى من دراسات، وجاء بما جاء من أدلة، وكثّف ما كثّف من جهود في سبيل هذا الهدف فلن يمكنه أن يوفيه حقه، ولذلك فإنَّ وظيفتنا إزاء مثل هذه الأمانة القيمة هي مواصلة الطريق باعتبارنا من أفراد “هل من مزيد؟”.. لنفرض أن أحدهم استودعكم علبة مليئة بالجواهر النفيسة، وقال لكم: “إن لم تحفظوها قطعت رقبتكم”، فبدهيٌّ أنكم ستبذلون غاية جهدكم للحفاظ على هذه الأمانة، بيد أن قيمة هذه العلبة بما فيها من مجوهرات بجانب الإيمان لا تعدل شيئًا.. وانطلاقًا من هذا فإن إقامة الإنسان أسوارًا متداخلة حول إيمانه حتى لا ينفذ الشيطان إليه أو تستغل نفسه الأمارة بالسوء هذا القصور إنما هو تعبيرٌ عن مدى حرص الإنسان وحفظه لهذه الأمانة.
والدوام على العبادة والطاعة بعد الثبات على الإيمان أمرٌ له أهميّة بالغةٌ للحفاظ على هذا الإيمان، وفي هذا الصدد يجب على الإنسان أن يتوجّه إلى ربه في توسُّل وتضرُّع فيستعين بكلاءته وعنايته، ويلهج بهذين الدعاءين المأثورين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اَللّٰهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ“[2]، “اللّٰهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ“[3].
إن لم نرع الأمانة ونحفظها كما ينبغي، ونسلمْها لخَلَفِنا على الوجه الصحيح فقد ضيعنا الأمانة، وألحقنا ظلمًا كبيرًا بالأجيال اللاحقة.
من يحمل أمانة الإسلام؟
القرآن الكريم تاجُ رؤوسنا هو أمانة أيضًا لدينا، وهذه الأمانة تتطلّب حفظَها في صدور الحفاظ، وفهمَ معناها ومحتواها بشكلٍ صحيح، فمن لم يتعرّف إلى معنى القرآن ومحتواه ما عرف قدره وقيمته، ويجب ألا ننسى أن تعهُّد القرآن وفهمه لا يكون بالاستماع إليه أو قراءته دون أن يتجاوز حناجرَنا، فالأصل هو الحفاظ عليه داخل المجتمع والحيلولة دون ذبوله وشحوب لونه، وبذل الجهد لجعله الكتاب الأوحد في العالم، ونفخ روحه في الأرواح، فإن لم نتعهده ضمن هذا الإطار الذي ذكرناه، واقتصرَ تكريمُنا له على وضعِهِ في غطاء حريري، وتعليقِه فوق رؤوسنا في غرف النوم فقد فرطنا في هذه الأمانة.
والإسلام بمبادئه وأركانه التي يلزم معايشتها هو أمانة من الله تعالى ثم من رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الأمة المحمدية.. لقد حدد مفخرة الإنسانية سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم إطار الإسلام، وكشف بوضوح عن ماهيته، ودلّنا على سبلِ السعادة الدنيوية والأخروية، ثم استأمن الرسولُ الأكرم صلى الله عليه وسلم صحابتَه الكرام رضوان الله عليهم ثم الذين جاؤوا من بعدهم على هذا الدين، وفي العصور التالية قام كل من المجددين والمجتهدين والأولياء والأصفياء والأبرار بإماطة اللثام عن بعض النقاط التي استُغلق فهمها حتى يُيَسِّروا أمر معايشة هذا الدين في حياتهم، وأبانوا باجتهاداتهم واستنباطاتهم عن إمكانية تطبيق هذا الدين في كل زمان ومكان، وبذلك أدوا وظيفتهم التي كُلِّفوا بها، واستأمنوا الأجيال اللاحقة عليها.. فعلينا نحن كذلك أن نتحمل اليوم هذه الأمانة التي حملها أسلافُنا على عواتقهم أمس، ونُسلّمها إلى الأجيال اللاحقة، وإنه لَجرمٌ عظيم أن نُسلِّمها لهم وقد أصابها الخللُ والتشوّه.
أجل، إن لم نرعَها ونحفظها كما ينبغي، ونسلمْها لخَلَفِنا على الوجه الصحيح فقد ضيعنا الأمانة، وألحقنا ظلمًا كبيرًا بالأجيال اللاحقة.
ولقد اكتسبت مسألةُ خدمة الإيمان والقرآن أهميةً أكبر في عصرنا؛ نظرًا لما تعرَّضت له من إهمال كبير، فقد كان الناسُ في الأزمنة الماضية يُضحّون بأنفسهم في سبيل هذه الغاية السامية حتى في أحلك الظروف؛ فأدّوا مهمتهم المنوطة بهم على أكمل وجه، وحملوا هذه الأمانة حتى اليوم وأوصلوها إلينا، ومن ثم فإنَّ الوظيفةَ الملقاة على عاتقنا الآن هي المحافظة على هذه الخدمة الإيمانية دون تعريضها لأيّ خلل أو قصور والمواظبةُ عليها دون تباطؤ، وتوصيلُها إلى مكانها الصحيح؛ بمعنى أننا نحن المُؤتَمَنون على هذه الأمانة ما حَيِيْنا مكلفون بتوصيلها إلى مكانها الصحيح دون أن نُضيّع أو نفرِّطَ بِــذَرّة منها؛ فإن أصاب هذه الخدمةَ انكسارٌ أو تصدُّع أو توقُّف أو تراجع لأننا لم نوفِّ هذه الوظيفة حقها فقد ضيعنا الأمانة، وسيحاسبنا الله تعالى عليها في الآخرة.
ولنوضح هذا الأمر بمثال: هب أن إنسانًا وهب نفسه للخدمة في سبيل الله، ورغم أن ساعات عمله لم تتجاوز ست عشرة ساعة في اليوم نراه يأتي شاكيًا من تباطؤ الأعمال ويطلب المساعدة في عملِهِ، فلا جرم أننا سنصف هذا الشخص بالكسل؛ لأنّ الروح المتفانية لا يحقّ لها أن تشعر بالقصور ولا أن تتذمّر أو تطلب المساعدة من الآخرين في العمل إلا بعد أن تعمل ست عشرة ساعة في اليوم والليلة ثم لا يكفيها هذا الوقت لأداءِ ما يُلقى على عاتقها من مهام.
إن إقامة الإنسان أسوارًا متداخلة حول إيمانه حتى لا ينفذ الشيطان إليه أو تستغل نفسه الأمارة بالسوء هذا القصور إنما هو تعبيرٌ عن مدى حرص الإنسان وحفظه لهذه الأمانة.
أجل، إن كان القلق يساورنا من أن نُوصَم بالخيانة عند الله أو من تضييع الأمانة فعلينا أن نتناول الأمر في هذا الإطار، وبعد ذلك نستعين بقدرة الله ورحمته وندعوه قائلين: “اللهم عجّل بإرسال الأمناء، حتى نسلمهم الأمانة التي حملناها ولم نضيعها”.
خصلة من النفاق تُضيّع الأمانة
يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: “أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا، إِذَا ائْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ“[4].. ففي هذا الحديث الشريف ذكر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من خصال النفاق عدم حفظ الأمانة.. ولذا يمكن القول إننا إن لم نراع الدقّة البالغة في مسألة الحفاظ على كل هذه الأمانات، ولم نتخذ التدابير اللازمة فإنَّ حياتنا ستغدو ملطّخةً بخصلة من خصال النفاق، وهذا يعني أننا قد ضيّعنا صفة الأمانة التي هي من صفات الأنبياء، والحالُ أن الناس يعبرون عن قيمتهم بقدر اتصافهم بصفات الأنبياء العظام عليهم السلام، ويفقدون قيمتهم بقدر تضييعهم لتلك الصفات.
وأنوّه هنا بمسألة أخيرة وهي أن الذين يتحركون تبعًا لهواهم في مثل هذه المسألة التي تتعلّق بحقوق العامة إنما يجرّون على أنفسهم دون وعي وبالًا كبيرًا مثل خيانة الأمانة.. من أجل ذلك لا بد أن ترتعدَ فرائصُنا خوفًا من تضييع هذه الأمانة التي أحسن الله بها إلينا وحمَّلَنا إياها، وأن نرفع أكفَّ الضراعة إلى الله قائلين: “اللهم احفظنا من سقطةٍ مثل خيانة الأمانة، واجعلْنا حافظين للأمانة حتى اليوم الذي تستردّ فيه أمانتك”، ولا ننسى أن يتذكر بعضُنا البعضَ الآخر عند الدعاء بذلك.
[1] مجلة الأحكام العدلية، المادة 90.
[2] سنن الترمذي، القدر، 7؛ سنن ابن ماجه، الدعاء، 2.
[3] صحيح مسلم، القدر، 17؛ مسند الإمام أحمد، 11/130.
[4] صحيح البخاري، الإيمان، 24؛ صحيح مسلم، الإيمان، 106