سؤال: ما “التوبةُ النصوح”؟
الجواب: جاء في الآية الكريمة المتعلِّقة بالتوبة النصوح خطابٌ إلى المؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ (سُورَةُ التَّحْرِيمِ: 66/8)، هناك ثلاثُ كلماتٍ يجب الوقوف عندها في هذه الآية وهي الإيمان، التوبة، النصوح.
الكلمة الأولى هي الإيمان، والإيمان هو قبولُ الإسلامِ كلِّه والإقرارُ به لسانًا والتصديقُ به جنانًا، فإن لم يتم الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لا يكون الإنسان مؤمنًا، لأنَّ ما نُعوِّلُ عليه إنّما هو المعنى الشرعي للإيمان، ومع ذلك فإن تناوَلْنا المعنى اللغويَّ له عَرَفْنا أن كلَّ من يؤمن بالله تعالى يدخلُ في أمانه. أجل، فالإيمانُ وحده هو ما يُخلِّصُ الإنسانَ من حوادثِ الدنيا ومشاكِلِها الكبيرة بحجم الجبال، وهو أيضًا ما يُخلِّصُه من قبضةِ عذاب الآخرة وويلاتها التي لا تُعَدُّ مصائبُ الدنيا بجانبها شيئًا يذكر.
إن التوبة هي شعور القلب بالندم، وترديدُنا لهذه الأدعية وغيرها لا يجعلُ التوبةَ مقبولةً إلا إذا اقترنَ الاستغفارُ بهذا الشعورِ بالندم.
الكلمة الثانية هي التوبة، والتوبة تعني تجديدَ الإنسان لنفسِهِ وإصلاحًا داخليًّا له، أي إعادةَ التوازنِ للقلبِ الذي فقدَ توازُنَهُ نتيجةَ الإنكار والتصرُّفات المنحرِفة، أي هروبَ الفردِ من الحق إلى الحق، وبتعبيرٍ أدق هروبَه من غضبِ الحقِّ إلى لُطفِهِ، ومن حسابهِ إلى رحمتِهِ وعنايتِهِ، واللجوءَ إليه، ويمكن تعريفُ التوبة أيضًا بأنها محاسبةُ الإنسان لنفسِهِ نتيجة شعورِهِ بالإثم؛ بمعنى أن النفسَ توجه الحياة كما يحلو لها دون شعور بالمسؤولية، وفي مقابل هذا تقف الإرادة حائلًا كالجبالِ العاتية أمام الآثام التي تشتهيها النفسُ ولا تأذنُ لها بالمرور.
فإذا كان الإثم يُشبه التدحرجَ إلى هاويةٍ دون توازنٍ؛ كانت التوبةُ هنا هي لَمْلَمة النفسِ والخلاص من هذا التدحرج بقفزةٍ إلى الخارج، وبتعبير آخر فإن كان الإثم هو إصابة الوجدان والروح بجرحٍ مؤقَّتٍ نتيجة عدم المراقبةِ والمحاسبة فإن التوبةَ هي شعورٌ بالألم المحيطِ بالقلب، والقيام بمحاسبة النفس ومراقبتها واكتساب الحواس قوّة جديدة وطاقة جديدة، ولما كان الإثم نتيجة لِتَحَكُّمِ وغلبة الشيطان وأهواء النفس على الإنسان كانت التوبة هي دفاعَ الحواس ضد الشيطان، وهي محاولة إعادة التوازن والتناغم إلى الروح.
الإنسان إن اعتادَ على اقترافِ الذنوبِ ولم يشعر بألمٍ تجاهها، فإنه إن تابَ توبةً بلسانِهِ فقط فلا يُعَدّ هذا توبةً.
وبينما يقوم الإثم بعمليّة تآكلٍ وتعريةٍ للروح كانت التوبة وقوفًا ضدَّ هذه العملية بعملية تعميرٍ مضادَّةٍ بالكلمة الطيبة، لذا فما أجلّ وما أعظم التوبة التي تُحَرِّكُ القلبَ من قَبْلِ أن يأتي اليوم الذي تندَهِشُ فيه القلوبُ والأبصار، فيا ليتنا كنَّا موفّقين في سدّ كلِّ ثغرةٍ يفتحُها الإثم بأنين التوبة وبكائِها.
يولَدُ الإنسان طاهرًا من كلِّ ذنب واعوجاج، والذين ينحرفون عن فطرتهم وعن الطريق القويم يكونون قد قَذَفوا بأنفسِهم إلى تربةٍ لا تُنْبِت، لذا فمصيرُهم المحتوم هو التفسُّخُ هناك، لأن الآثامَ تُعَدُّ عوامل تفسُّخٍ للإنسان، وهناك آية حول رجوعِ الإنسان إلى ربِّهِ تعالى بعد اقترافه الإثم، قال تعالى: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾ (سُورَةُ الزُّمَرِ: 39/54)، والإنابة هي العودة والرجوع، إذًا فالتوبة هي الرجوعُ إلى الأصل النقيِّ بعد التلوُّثِ بالإثم، والحديث الشريف يقول: “إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ: 83/14)”[1].
أي إن فكرةَ اقترافِ الإثمِ تكونُ قد بدأت بالتوسُّع انهيارًا في دماغِهِ، تمامًا مثل الشخص الذي بدأ ينـزل سلّمًا، فهو ما إن ينـزل درجة حتى يتهيأ للدرجة الثانية، وما إن ينـزل الثانية حتى يتهيأ للثالثة، وهكذا فما إن يعتاد الشخص على اقتراف الإثم حتى يفقد الحياء فيسهل عليه اقترافُ آثامٍ وموبقات عديدة فيستمرُّ في النـزولِ والهبوطِ إلى أسفلِ سافلين، لذا قال سعيد النورسي رحمه الله “إن في كلِّ إثمٍ وخطيئةٍ طريقًا مؤدِّيًا إلى الكفر فإن لم يمح ذلك الإثم فورا بالاستغفار يتحول إلى دودة معنوية، بل إلى حية معنوية تلدغ القلب وتؤذيه”[2]، والتوبةُ هي سدُّ الطريق أمام مثل هذا الهبوطِ وتغييرُ الوجهة للصعودِ إلى الطريق المؤدِّي إلى الله تعالى، وبذلُ الجهد في هذا السبيل.
التوبةُ هي رجوعُ الإنسان إلى رَبِّه مرة أخرى بعد ضلالِهِ وانحرافِهِ عن الطريق، ولذا نرى أن الرسول يقول في حديثه الذي يورده البخاري ومسلم: “لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ”([3]).
ولا شكّ أننا لا نستطيع إسناد كلمة “الفرح” الواردة في الحديث بمعنى الفرح المعروف لدينا إلى الله تعالى، فهذه الكلمة تفيدُ هنا معنى آخر يليق بصفة “الغِـنَـى المطلقِ” لله، ونعجز نحن طبعًا عن إدراكِ هذا المعنى، ولكنَّنا نفهمُ أن الله تعالى يُبْدِي رضاءَهُ لتوبةِ عبدِهِ، وهذا هو المهمّ.
هناك وجهتان للتوبة: الأولى متوجِّهة لنا، والثانية متوجِّهة لله تعالى، ولهذا المعنى يُشيرُ الرسولُ عندما يقول: “وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ”([4]) فتوبتُنا متوجّهة نحو الله تعالى، وتوبةُ الله متوجّهةٌ برحمتِهِ نحونا حيث يفتح بابه من جديد لنا.
إننا عندما ننحرفُ عن الطريق تنغلقُ جميع النوافذ وتنسدّ جميع المنافذ بيننا وبين الله مؤقّتًا، ثم نندم ونتحسَّرُ قائلين: “لماذا عملنا هذا؟ لماذا انحرَفْنا إلى طريق مضادٍّ لِفطرتنا؟”؛ وبينما نكون منغمرين في مشاعر الندم إذا بنا نحسُّ بأن النوافذ والمنافذَ قد انفتحَتْ لنا من جديد، فالخطوة الأولى كانت توبتَنا وبدايتُها النيةُ والندامةُ التي تقضُّ مضجعنا، أما الثانية فهي توبة الله علينا حيث فتحَ أمامنا الأبوابَ والمنافذَ قائلًا: يا عبادي! أنا لم أنسَكُم ولم أترككم… وما دمتم تذكرونني فإنني أتقبَّلُ توبتَكم وإن تكرَّرَ منكم نكثُ العهد مرات ومرات. أجل، فهو أرحم الراحمين، لذا فمهما عَمِلْنا من سوء، علينا ألا ننسى الالتجاءَ إليه قائلين “يا أرحم الراحمين ارحمنا… يا غفورُ يا غفّار اغفرْ لنا ذنوبَنا وتجاوَزْ عن سيِّئاتنا…”.
والكلمة الثالثة هي “النصوح” وهي اسم فاعل على وزن “فعول” وتفيد المبالغة، ومعناها المبالغة في نصح النفس وفعل الخير، وتأتي من جذر “النصيحة”، والنصيحة هي إرادة الشخص خيرَ الآخرين والتفكيرُ الحَسَنُ والرؤيةُ الحسنة، وعندما نقول: “الدينُ النصيحة” نقصدُ التوجُّهَ لخيرِ الآخرين ومحبّة الخير لهم، والأخذ بأيديهم لمنع انحرافهم، لذا كانت الدعوة إلى الله وإلى رسوله من موجبات هذا الأمر، لذا نُطلِقُ اليومَ على الكادرِ النورانيِّ الذي يدعو إلى الله اسمَ “جيش القدسيِّين” بتعبير السيد المسيح u، وهؤلاء الجنود إن انفطرت السماء فوقهم، وتزلْزَلَت الأرض وانشقَّتْ تحت أقدامهم فلن يتخلَّوا أبدًا عن خدمة الإسلام، بل يستمرُّون كالأبطال في الدعوة وإن كان القبض على الدين قبضًا على جمرة من النار.
أجل، إن الدعوة إلى الله وإلى الرسول وإلى القرآن وإلى الدين الإسلامي وبعثَ الاطمئنان في القلوب الخالية منه وبعثَ فكرة الآخرة وجمالها في القلوب التي نسيت الآخرة ويئسَتْ منها، وإيقادَ الشوق لرؤية جمال الله تعالى في الآخرة والتي تعدلُ دقيقةٌ واحدة منها آلافَ الأعوام من حياة الجنة… كلُّ هذا الأمر يمكن تلخيصُهُ بكلمةِ “حبِّ الخير” التي تنطوي عليها كلمةُ “النصيحة” الواردة في قولِ الرسول r: “الدِّينُ النَّصِيحَةُ”[5]، وكما ذكرنا فإن كلمة “النصوح” تعني المبالغة في حبِّ الخير.
إننا عندما ننحرفُ عن الطريق تنغلقُ جميع النوافذ وتنسدّ جميع المنافذ بيننا وبين الله مؤقّتًا.
وعلى الإنسان أن يحبَّ الخيرَ أوَّلًا لِنَفْسِهِ، وأن يحفظَ أولًا نفسه من جميع الشرور والآثام، وحفظُ النفسِ ركنٌ من الأركان الخمسة للحقوق، لذا على الإنسان أن يحفظَ نفسَهُ من الخمرِ ومن الزنا ومن الكفرِ ومن الضلالة، وكلُّ واحدٍ من هذهِ له علاقة بأحدِ “الأصول الخمسة” أي على الإنسان أن يحفظَ نفسَهُ من أن يكون حَطَبًا لجهنّم، فإن عاش كَحَطَبٍ حُشِرَ كَحَطَبٍ، ومصيرُ الحطبِ معروفٌ، والقرآن الكريم يقول ﴿فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ (سُورَةُ الْجِنِّ: 72/15)؛ لذا فعلى كلِّ إنسان أن يكون ذا رغبةٍ قوية في إرادة الخيرِ لنفسِهِ، ولا يتمّ هذا إلا إذا كان حسَّاسًا ضدَّ جميع الآثام، أما درجةُ إرادةِ الخير هذه فيجب أن تكون بحيث “يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ -بعد أن نجّاه الله منه ومن الضلال- كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ”[6]
ومع كل هذا فقد تزلّ قدمُ الإنسان، وفي هذه الحالة ليس أمامه إلا العودة إلى عقلِهِ وضميرِهِ والقول: “إنني لم أَصِلْ إلى هذا الوضعِ إلا لابتعادي عن الله، إذًا فلا خلاصَ لي إلا بالرجوعِ إليه”، يقول هذا ثم يجتهدُ في تقويةِ صِلَتِهِ بالله تعالى، وهذا الجهدُ يُشَكِّلُ جانبًا من التوبة النصوح.
والجانب الآخر منها هو ألا يعودَ الإنسان إلى آثامه السابقة، لأن من يطلبُ الخيرَ لنفسِهِ لا يرجع إلى ما كان عليه مطلقا، فكما يتمنَّى الإنسانُ لأولادِهِ الخيرَ على الدوام ويرغبُ أن يكونَ مستقبلُهم زاهرًا، كذلك يجبُ أن يريدَ الخير لنفسِهِ على الدوام، لذا عليه أن يحاولَ ألا يدخلَ إلى الإثم منذ البداية، وأن يعدّ ابتعادَهُ عن الله تعالى جرمًا كبيرًا وهوَّةً واسعةً يصعبُ سدُّها، إن فعل هذا كانت توبتُهُ توبةً نصوحًا، والله تعالى يقول: ﴿تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ (سُورَةُ التَّحْرِيمِ: 66/8) أي يقول للمؤمنين: إنكم بإيمانكم تَقِفُون على أرض آمنة، وبهذا الإيمان استطعتم التفريق بين الأسود والأبيض وبين الخير والشر، لقد آمنتم بالله ووثقتم به واستندتم إليه، فإن زللتم يومًا أو انحَرَفْتُم عن الطريقِ فلا تقعُوا في اليأسِ أبدًا، لأن الله تعالى يغفرُ كلَّ شيء عدا الشرك: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ (سُورَةُ النِّسَاءِ: 4/48). لذا يجب ألا تبقوا في الموضع الذي سقطتم فيه، بل عليكم أن تتوجَّهوا إلى الله تعالى مباشرةً وتندموا على آثامكم وتثوبوا إلى رشدكم؛ وهذه هي التوبة النصوح على ما أعتقد.
لما كان الإثم نتيجة لِتَحَكُّمِ وغلبة الشيطان وأهواء النفس على الإنسان كانت التوبة هي دفاعَ الحواس ضد الشيطان.
وللتوبة النصوح شروط منها:
1- إن كان الذنب متعلقًا بحقٍّ من حقوق العباد، فيجب إعادةُ الحقِّ إلى صاحبه أولًا والاعتذار إليه وطلب العفوِ منه.
2- عقد العزمِ على عدم العودة إلى الذنب مرة أخرى.
3- الإسراعُ في التوبة إلى الله عن الذنب الذي اقترفَهُ في التوِّ واللحظة حتى لا يعطي فرصةً لنفسِهِ للتفكير في اقترافِ ذنبٍ آخر؛ أي يجب قدرَ الإمكانِ ألا تبقى الذنوب دون تَوْبةٍ ولو لمدّة خمسِ دقائق.
والبعدُ الآخرُ للتوبةِ هو أن الذنبَ يجبُ أن يُحْدِثَ ألمًا في الروح ونفورًا واشمئزازًا في الضمير؛ لأنَّ الإنسان إن اعتادَ على اقترافِ الذنوبِ ولم يشعر بألمٍ تجاهها، فإنه إن تابَ توبةً بلسانِهِ فقط فلا يُعَدّ هذا توبةً بل تكونُ عبارةً عن حركاتٍ آليّةٍ وعن تلفُّظِ بعضِ العبارات الخالية من الفائدة، لأن التوبةَ عبارةٌ عن ألمٍ محضٍ يحسُّهُ الضمير بحيث يجعل الإنسان يتلوَّى منه، أما التلفّظ بالتوبة باللسان فيأتي بعد هذا الإحساس بالندم وبالألم، أي إن التوبة ليست إلا ترنّمًا بالندم والألم، ولكن بشرط أن نتعلَّمَ كيفيَّتَهُ مما وردَ في الأثر فنقول: “أستغفر الله العظيم الكريم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوبُ إليه، توبة عبد ظالم لنفسِهِ لا يملك لنفسه موتًا ولا حياة ولا نشورًا”[7]، وفي حديث عن رسول الله r أن على الذي ينوي التوبة أن يركعَ ركعتين، ثم يضع جبهته على الأرض قائلًا من كلِّ قلبهِ: “يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أسْتَغِيثُ أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، ولاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ”[8] أو أدعية مثل هذه الأدعية، أي القيام بالتعبير عن ندمه بمثل هذه الأدعية.
التوبة تعني تجديدَ الإنسان لنفسِهِ وإصلاحًا داخليًّا له، أي إعادةَ التوازنِ للقلبِ الذي فقدَ توازُنَهُ نتيجةَ الإنكار والتصرُّفات المنحرِفة.
وهناك دعاء مأثورٌ عن الرسول يُطلَقُ عليه “سيد الاستغفار” يدعى به صباحًا ومساءً وهو: “اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ”[9]. وقد أضاف بعض السلف “يا غفار، يا غفور” بعد كلمة “أنت” الواردة في الدعاء، ومع أن هذه الإضافة غير واردة في دعاء الرسول إلا أن طلبَ الشفاعةِ بإضافة اسمين من أسماء الله الحسنى شيءٌ جميل.
أجل، إن التوبة هي شعور القلب بالندم، وترديدُنا لهذه الأدعية وغيرها لا يجعلُ التوبةَ مقبولةً إلا إذا اقترنَ الاستغفارُ بهذا الشعورِ بالندم، لذا فإن قلنا بلساننا “أستغفر الله، أستغفر الله العظيم الكريم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه” من دون إحساسٍ وشعورٍ مرافقٍ لهذه الكلمات وغير صادرٍ من أعماقِ نفوسِنا فإن استغفارَنا يكون عبثًا، فعلى الإنسان في الأقلِّ التعبير عن ذنوبه أمام الله تعالى تعبيرًا صادقًا نابعًا من ضميره، لأننا عندما نُجري عمليّةَ التوبةِ لا نقومُ بعملٍ هازل ولا بإجراء مراسيم شكليّة ميتة ولا بفعالية فولكلورية تقليديّة، بل نقوم بإبداءِ شعورٍ صادقٍ بالنَّدَمِ أمام الله.
الإيمان هو قبولُ الإسلامِ كلِّه والإقرارُ به لسانًا والتصديقُ به جنانًا.
وأخيرًا نود الإشارة إلى أن شعائر تجديد النكاح والإيمان التي يقوم بها البعض في المساجد لا أساس لها ولا تُجدي الكلماتُ الواردةُ فيها المؤمنَ نفعًا، فموضوعٌ مهمٌّ كموضوعِ النكاح القائم على قواعد جدّيّة لا يفيد فيه أن نقول “إني أفكر في القيام بتجديدِ نكاحي وإيماني”، كما أن هذه الجملة معرّضة للنقد من ناحية اللغة أيضًا، لأنه لا يقولُ صراحةً إنه يريد التجديد، بل يقول إنه يفكِّرُ في هذا، وربما قام به في المستقبل، وهذا -أعاذنا الله- تعبيرٌ خطيرٌ جدًّا، لأن الإنسانَ إن كان قد تلفَّظَ بكلمةِ الكفرِ عن وعيٍ أو دون وعيٍ فعليه أن يجدِّدَ إيمانه على جناحِ السرعةِ ودون أيّ تأخير، والحلُّ الوحيد لهذا هو التلفُّظُ بكلمةِ الشهادةِ نابعةً من أعماقِ قلبِهِ فيقول: “أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله”، وهذا لا يتحمّل التأخير، ولا فائدة من إشغال المسلمين أو التسرية عنهم بما أسلفناهُ من أمورٍ غير جدية، فلنُبَادِرْ جميعًا إلى التوبة الجدّية، ولتهتزّ قلوبُنا لكلِّ خطإٍ أو زلة، ولنَتَوَجَّهْ إلى الله تبارك وتعالى، ولنفعلْ كلَّ هذا ضمن الإطارِ الذي رَسَـمَـهُ لنا رسولنا الكريم.
[1] سنن الترمذي، تفسير القرآن، 78.
[2] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي: اللمعات، اللمعة الثانية، ص 11.
[3] صحيح البخاري، الدعوات، 4؛ صحيح مسلم، التوبة، 7 (واللفظ لمسلم).
[4] صحيح البخاري، الرقاق، 10؛ صحيح مسلم، الكسوف، 116.
[5] صحيح مسلم، الإيمان، 95؛ سنن أبي داود، الأدب، 72.
[6] صحيح البخاري، الإيمان، 8.
[7] أورده ابن رجب الحنبلي في “جامع العلوم والحكم” موقوفًا على عمر، 3/1170.
[8] البزار: المسند، 13/49؛ النسائي: السنن الكبرى، 9/212؛ الحاكم: المستدرك على الصحيحين، 1/730؛ البيهقي: شعب الإيمان، 2/212.
[9] صحيح البخاري، الدعوات، 2؛ سنن أبي داود، الأدب، 114؛ سنن الترمذي، الدعوات، 15.