إن الكلمات التي يختارها القرآن الكريم تؤدّي المعنى المراد من دون أي نقص أو خلل، ولا يمكن العثورُ على أيِّ نقص أو إهمال في هذا الباب، وهذا واقعٌ في كل الألفاظ القرآنية، وهناك أمثلة كثيرة من هذا القبيل، وسنكتفي بمثالين تحاشيًا للإطالة:
المثال الأول: قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ (سورة فَاطِرٍ: 35/37).
فهذه الآية الكريمة تتحدّث عن الوضع المزري لأهل النار، وإطلاقِهم للعويل والصرخات، ويستخدم القرآن الكريم هنا فعل “صرخ” على باب الافتعال. ونلاحظ في ذلك عدة معان:
1- الصيحة الشديدة
2- البكاء والعويل بصوت عال
3- إطلاق الصرخات وطلب النجدة
4- صيحات أهل النار وصرخاتهم التي لا يُستَمَع لها
5- وَلْوَلَةُ المرأة الثكلى وعويلها على ولدها الميت
فالكلمة غالبًا إذا زاد مبناها تضاعف معناها، إلا أن “عويل المرأة الثكلى” كأنه هو المحور الأساسي لكل هذه المعاني؛ بمعنى أن حال أهل النار يشبه تلك المرأة التي فَقدت ولدها فاحترق فؤادها وأخذت تُطلِق الصرخاتِ يمنة ويسرة وهي تطلب النجدة ممن حولها.. فحينما يدلّ المعنى على هذا المؤدَّى، يدل اللفظ على نفسيتهم، حيث إن الخاء في “يَصْطَرِخُونَ” توحي -بجرسها وموسيقاها- بصيحات هؤلاء الذين فقدوا الأمل فبدؤوا يُطلقون الصرخات المتتالية في يأس وإحباط.
المثال الثاني: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ (سورة النَّاسِ: 114/1-6).
فقد رُتّبت الألفاظُ على هذا النحو، وذُكرت الصفات مقدمًا حتى يبعث ذلك في النفوس نوعًا من الشدّ المعنوي تجاه ذلك الوسواس الخناس.
فهذه الآيات تتكلم عن وسوسة الشياطين وكيفية التخلص منها، إلا أن حديثنا سيكون عن المواءمة بين اللفظ والمعنى.
وقد ذكرنا فيما سبق أن الشيطان مخادعٌ للغاية، وهو بمراوغته يلقي في قلوب الناس الشبهات والدسائس من دون أن يحس به أحد، فهذه الآيات تنبه الإنسان تجاه حيل الشيطان الخفية، ونلاحظ أن القرآن الكريم إذ يتحدث لنا عن هذا الأمر يستخدم أسلوبًا يشعر الإنسان من خلال كل كلماته بهذه المراوغة الخفية.
فكل الآيات في هذه السورة تنتهي بحرف السين، وبذلك تلفت الأنظار عن طريق الجناس الصوتي إلى همسات الشيطان ووساوسه وفتنته، حتى يحذَرها الإنسان، ويُفهم من هذا أن كل ما لدى الشيطان من القوة والسلاح والأدوات إنما هو عبارة عن مكر ووسوسة؛ فهو يحاول أن ينتهز الأوقات التي يضعف فيها الإنسان ليغويه ويصرعه، وحينما يعقد العزم على الغواية فإنه يستعمل ألف نوع من مصائده الخفية ليقوم بعملية الإفساد في القلب والعقل، ويخطط لبسط نفوذه على الإنسان عن طريق التحكم في نقاط ضعفه.
إن هذه السورة إذ تحذّر الإنسانَ بكل حروفها من هذا الوسواس المراوغ، تحفّزه وتشوّقه في الوقت ذاته للتوجّه إلى ربه المطّلع في كلّ وقتٍ على كل شيء، ويمكن أن نتلمس من خلال كلمات سورة الناس أن هذه الروح الشيطانية موجودةٌ في كل روح خبيثة مثيرة للفتن؛ حيث إن الألفاظ تشارك المعاني بهمسها وصفيرها في الدلالة على الهمس والخفاء، وبالتالي فإن الإنسان مهما رفع صوته حينما يقرأ هذه الآيات فإنه لن يتغلّب على ما تدلّ عليه الألفاظ من الأصوات والنغمات.
ويمكن لنا أن نأتي بأمثلة أخرى لزيادة الإيضاح، إلا أن المساحة هنا لا تتسع لإيرادِ المزيد، فليس الهدف الحديث عن جميع ما في القرآن، بل المقصود إيراد بعض الأمثلة التي تدل على إعجازه من هذه الناحية أيضًا، حتى ننبّه العقول والضمائر والمشاعر والأذواق تجاه القرآن، ونستثيرها نحوه.
وقد تَبيَّنَ لنا من خلال ما سردناه من الأمثلة أن الكلمات القرآنية تُوائم بين اللفظ والمعنى؛ فكما أنها لا تهمل المعنى المقصود ولو بجزئية من جزئياتها، فهي تتمتع بنغم صوتي مختلف، فكل من يرغب ويحرص على قراءته فإنه سيتذوق من التناغم والموسيقى ما لا يمكن تقليده، وبالتالي فسيخشع تجاهه.
ونسأل المولى المتعالي أن يرفعنا إلى سماء القرآن معجز البيان.