الشيوخ.. الشيوخ الذين يدنون من الموت خطوة خطوة.. بم تهدأ نفوسهم؟ وكيف يتخلصون من القلق المريع إذا لاح لهم القبر فاغرًا فاه وهم يندفعون إليه اندفاعًا؟ كيف يخفّفون الكرب الجاثم على صدورهم كلما أحسوا بدبيب الشيب يسري في رؤوسهم؟ كيف يُرمِّمون ما يحدث في أرواحهم من فجوات عميقة إثر هذه الانهيارات؟ وكيف يمسحون من قلوبهم شروخًا تعاظمت طوال عمر مديد جراء مفارقة الأحبة من صديق وولد وحفيد؟
وهل من سلوان لهؤلاء الشيوخ وقد غادرهم الشباب، وفارقهم الجمال، وانفضّ عنهم المنصب والجاه مخلِّفًا في نفوسهم آثارًا رهيبة؟ إن لجأتم إلى التسرية عنهم بشيء مادي، أفلن يلبث أن يزول ويورث في أعماقهم جروحًا جديدة يصعب اندمالها؟ إذًا فلا سبيل لإدخال الطمأنينة في قلوب الناس كافة -ولا سيما الشيوخ منهم- إلا سبيل الإيمان بالبعث بعد الموت.
الإيمان بأن القبر الذي يحسبه غولًا مروّعًا يترقب لحظة ابتلاعه، ليس إلا بابًا متواضعًا ينفتح إلى ممر يبلغ بصاحبه إلى عالم آخر مضيء، وقاعةَ انتظار ينتقل الناس عبرها إلى رياض الجنة، ومنزلًا تتعاقب فيه أمواج الرحمة والمغفرة.. هذا الإيمان فقط، هو مبعث السلوى ومنبع الأمل لتلك القلوب.
إن القرآن وهو يحكي لنا قصة زكريا عليه السلام، يصور على لسانه -في إيقاع موسيقي رائع- أنين إنسان تأهّب للرحيل عن هذه الحياة: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ (سُورَةُ مَرْيَمَ: 19/4)، وهنا يتجلى جانب من جوانب الإعجاز القرآني؛ إذ يصور الأنينَ المنبعث من أعماق الروح بهذه الصورة الفريدة، ولو أن كل ذي حس تَسمَّع إلى وجدانه لوجد الابتسامة الحزينة التي ترتسم على شفاهِ القلب، ولأحسّ بهذا الأنين المنطلق من الأعماق، ولن تهدأ تلك العاصفة التي تهزّ أركان الروح، إلا بالإيمان بحياة أخرى، لأن الإيمان هذا، يهمس بأنفاسه الباعثة للحياة هذه الكلمات: “لقد أتممتَ حياتك، وأدّيت مهمتك، ومن ثم فإن صاحب الرحمة الواسعة الذي أرسلك إلى هذه الدنيا، لن يتركك تشقى في هذه الصحارى بعد اليوم، لذا سيقرّبك إليه، ويُفيض عليك من نعمه التي أعدّها لك خصيصًا”.
أجل، إن مثل هذه الكلمات التي تفوح بالبشرى؛ تفتح أبواب السعادة والاطمئنان الحقيقي لذلك الشيخ.. كيف لا، وهو الآن يستعد للسفر إلى موطنه في عالم الجنان.