لا ينبغي للإنسان أن يستسلم لليأس في حياة العبودية فَيضْنَى، ولا أن يثق بنفسه ثقةً مفرِطةً فَيَطغى، بل عليه أن يكون على وعيٍ دائم بذنوبه التي ارتكبها، ولا يغيب عن باله أن الله تعالى قد يستعمل المذنبين أيضًا في أعمال الخير، ومن يقدر على فعل هذا لا يعزو لنفسه توجّهات الله وإحساناته، وإنما يقف أمام الجماليات التي أسبغها الله عليه ويقول: “لولا فضل الله عليّ لما كان لمثل هذه الزهور والورود أن تنبت في هذه الأرض السبخة وهذه الصحراء القاحلة”، فمَن نظر إلى نفسه هكذا لا يُداخله غرور، ولا يقصِّر في شكر الله على ما أفاض عليه من نِعم.
إن كنتم تقومون بأعمالكم واضعين في مخيلتكم أنه لا مثيل لها؛ فقد أبطلتم حياتكم القلبية والروحية في هذه الدنيا.
وإن قدرة الأشياء الصغيرة للغاية على إنجاز أمور كبيرة ليدلّ على عظمة الله تعالى، فقد يستعملُ الله تعالى أناسًا عاديين -رغم زللهم وسقوطهم وترديهم وانكسارهم وتحطمهم وما أصبحوا عليه من بؤس وشقاء- في أمور عظيمة جدًّا، بل إنه قد يُنعِم بفتح البلدان وإحياء الدول على أيديهم، ويوفقهم في جهودهم ومساعيهم، لكن لا ينبغي للإنسان إذا ما رأى هذه الأفضال غير العادية وهي تتحقّق على يديه أن يزيغ ويضل، وينساق وراء الأفكار المنحرفة.
الخسارة في موضع هو أدعى للكسب
وليس من اليسير بالطبع أن يحافظ الإنسان على استقامته أمام ما أحرزه من نجاحات وإنجازات، وهذا هو سبب خسارة الكثيرين في امتحان الدنيا، فمثلًا عندما يرى الإنسان عشرةً من الناس يلتفون حوله يوشك أن يرى نفسه وليًّا من أولياء الله، وخاصةً إذا كان مَن حوله يتملّقون إليه ويرفعونه إلى عنان السماء، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يرنو ببصره إلى القطبية والغوثية انطلاقًا من المقامات التي عزاها له حسنُ ظنِّ المحيطين به، وربما يرى هذا المسكين نفسه الجامع للقطبية والغوثية على حد سواء، ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحد، بل يدعي المهدية والمسيحية، ويرى نفسه محلِّقًا في السماء وإن كان غير جديرٍ بالمشي على الأرض، فيعيش خُسرانًا تلو خُسران رغم أنه في موضع هو أدعى للكسب؛ ولذا فإن من أكبر إحسان الله للعبد ألا يُشعره أحيانًا بكرمه ولطفه وإحسانه عليه.
إن الله تعالى يحب المتواضعين، ويرفعهم إلى المكانة التي تليق بهم، فلولا سقوط البذرة في رحم التراب ما استطاعت أن تكون مظهرًا للفيض.
عودًا على ذي بدء، إن الإنسان إذا كان على وعيٍ بذنوبه وخطاياه؛ لا يداخله صلَفٌ ولا غرور، فلا يستكثر على نفسه المقامات العالية مثل القطبية والغوثية فحسب، بل وحتى البشرية العادية أيضًا، فإذا ما رأى الأراضي القاحلة قد تحولت إلى رياضٍ وارفة الظلال قال: “يستحيل أن يصدرَ خيرٌ منّي لكن الله يريد أن يكشف عن تجلّيات الوجود حتى في العدم”.
ولا أقصد من هذا الكلام أن نفعل كما فعل بعضُ غلاة الملامتية في التاريخ، فقد أخطأ هؤلاء عندما اعتقدوا ضرورة اقترافهم الذنوب حتى يلزموا حدهم، ويتجنبوا الادعاءات التي تغريهم وتجعلهم يتعالون على غيرهم، فهذا انحراف من نوع آخر، فيجدر بالمؤمن أن يتوخى الدقة والحذر في حياته حتى لا يتدنس من ناحية، وألا يغفل عن كدوراته الحالية من ناحية أخرى، والحال أن الذنوب التي يرتكبها الإنسان دون وعي منه؛ كإلقاء السمع إلى خطإ ما، أو الخطوة إلى ذنب ما، أو التفوه بكذبة ما؛ لَتكفي من أجل إجراء مثل هذه المحاسبة، بل تزيد، فيجب ألا يغيب عن بال الإنسان أبدًا ذنوبه التي اقترفها حتى وإن تاب عنها ألف مرة بعد ارتكابها، وأن يبقيها ماثلة نصب عينيه على الدوام، ومن يستطع فعل ذلك لا يعزُ لنفسه النجاحات التي حققها الله على يديه.
لا ينبغي للمذنبِ ولا للغارق في الدنس والفجور حتى عنقه أن ييأس أو يقنط من رحمة الله سبحانه وتعالى.
وإن مسألة العصمة، أي رؤية الإنسان نفسه معصومة من الخطإ خطيرة جدًّا، فالأنبياءُ العظام الذين كانت العصمةُ من أهمّ أوصافهم يرتجفون وَجَلًا من الله تعالى، ولم تدْعُهم عصمتُهم قط إلى التهاون والتراخي في عبوديتهم، ولذا يجب على الإنسان أن يعلن الحرب على هذه الفكرة، وأن يبذل جهدًا مستميتًا في سبيل استقامته من ناحية، وألّا يعتقد أبدًا أنه طاهر مطهر من ناحية أخرى.
أجل، من الأهمية بمكان أن يلزم الإنسان حدّه ولا يتجاوزه مهما حقّق الله على يديه من نجاحات، ويشير بديع الزمان سعيد النورسي إلى هذه الحقيقة مستشهدًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “طُوبَى لِمَنْ عَرَفَ حَدَّهُ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ طَوْرَهُ“[1]، كلُّنا بشرٌ مخلوقون من لحم وعظم، ونحمل بين جوانحنا نفسًا، وهناك شيطان يسعى دائمًا بكل قواه لإغوائنا، ومن الصعب القول أيضًا بأننا قد نشأنا في مجتمع نظيف جدًّا، لأن شوارعَنا التي نسير فيها عمَّت فيها البلوى وأصبحت مكتظَّةً بالذنوب، وبينما دُنِّسَ بعضُنا بالقاذورات حتى سيقانهم، فإن بعضنا الآخر يغوص في مستنقع من القاذورات حتى حلقومه، وبهذه الحالة فليس من الممكن أن يتأتى منا أيُّ خير، إلا أن الله تعالى برحمته الواسعة قد منّ على المذنبين من أمثالنا بفضله، واستعمَلَنا في أعمال الخير.
إن صاحب الروح الأنانية النرجسية لا يستطيع أبدًا أن يتخلص من أوهامه لأنه يشعر على الدوام بضرورة التعبير عن نفسه وتميزه على الآخرين.
أجل، إن من يعي أن كلَّ الألطاف والنعم التي يتمرّغ فيها من الله تعالى؛ لا يتطاول، ولا يتجاوز حد الاعتدال، وطالما استطعنا النظر إلى الأمور بمثل هذا الأفق الخالص من التوحيد أدام الله علينا ألطافه وإحساناته.
ومن جانب آخر، فلا ينبغي للمذنبِ ولا للغارق في الدنس والفجور حتى عنقه أن ييأس أو يقنط من رحمة الله سبحانه وتعالى، وكما هو معلوم فقد نهى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابةَ عن لعن ذلك الرجل الذي كرَّرَ شربَ الخمر، إذ إنه لما جيءَ به قَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ“[2]، ولذلك لا بد للإنسان أن يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأن يسعى سعيًا حثيثًا في سبيلهما، دون النظر إلى عظم الذنوب والخطايا التي ارتكبها في الماضي، عليه أن ينسب الكبرياء والعظمة إلى الله تعالى السلطانِ الأوحدِ لدائرة الربوبية والألوهية، ويقول: “اللهم إني أعلم أنْ لا محل لي من الإعراب، لكن أنت من يمنحني هذا المحل”، وعليه أن يواصل تبعيّته ومحبّته للداعيةِ الأعظم صلى الله عليه وسلم، إن فعل ذلك فلا بد أن يترجم محبته لله ورسوله بالثناء والمناجاة، ولا تمنعه ذنوبه من فعل هذا، فقد تضخِّم له النفسُ والشيطانُ ذنوبه، وقد يوحيان له أنه بهذه الذنوب قد ابتعد عن الله، ولكن لا ينبغي للإنسان أن يجري وراء نفسه وشيطانه، وعليه أن يتجول بأفكاره ومشاعره في دائرة القرب.
من الأهمية بمكان أن يلزم الإنسان حدّه ولا يتجاوزه مهما حقّق الله على يديه من نجاحات.
الأرواح النرجسية
وعند النظر إلى الصالحين عبر التاريخ سنلاحظ أنهم كانوا يعنّفون أنفسهم وينتقدونها ويحاسبونها بشدة، ولا يعطونها قدرًا ولا قيمة، هذه هي العظمة الحقيقية، فلا يُنتظر ممن استولت عليهم الأنانية القيام بأي عمل نافع، فإن صاحب الروح الأنانية النرجسية لا يستطيع أبدًا أن يتخلص من أوهامه لأنه يشعر على الدوام بضرورة التعبير عن نفسه وتميزه على الآخرين، وهؤلاء الأنانيون لا يحبّذون الأفكار التي يقولها الجميع أو يتبنونها، فهم يركضون وراء الأفكار الهامشية دائمًا بغية التميز والإبداع، ويحاولون ابتكار آراء غير عادية لجذب الانتباه وإثارة الإعجاب لدى الآخرين، فإذا لم يجدوا الإعجاب والتقدير الذي ينتظرونه رفعوا من مستوى كلامهم أكثر فأكثر، بل إنهم لا يتورّعون عن الكذب أحيانًا عندما يرون الصدق لا يجدي معهم في تسويق أنفسهم.
وهؤلاء النرجسيّون المفتونون بأنفسهم وأفكارهم وأسلوبهم ومنزلتهم لا يستسيغون الآخرين ولا ما يفعلونه، ومن الصعب أن يقنعوا ويرضوا بشيء ما، ولذلك يسيرون في خطٍّ متعرج على الدوام، ويقفزون من غصن إلى آخر، ويقضون عمرهم لا يستقيمون على شيء، ولا يتأتى منهم خير.
في حين أن وجود الإنسان الذي أوجده الله من العدم قد بدأ بقطرة ماء، وإذا ما التفتنا ونظرنا إلى سيرة حياتنا، وفكَّرْنا في الأخطاء التي ارتكبناها فسنخجل من أنفسنا، لقد خلقَنا الله تعالى عبيدًا له، ولهذا فإن العظمة الحقيقية للإنسان تكمن في عبوديته لله عز وجل، فما يقع على الإنسان هو أن يقنع ببشريته، وأن ينشد الشرف والعزة في عبوديته لربه سبحانه وتعالى.. ويجب على الإنسان أن يقابل العطايا المادية والمعنوية التي أسبغها ربه عليه -كنوع من الجبر اللطفي- بالشكر، وأن يعمل على تنميتها وتطويرها.
قد يستعملُ الله تعالى أناسًا عاديين -رغم زللهم وسقوطهم وترديهم وانكسارهم وتحطمهم وما أصبحوا عليه من بؤس وشقاء- في أمور عظيمة جدًّا.
أبطال التواضع
إن الله تعالى يحب المتواضعين، ويرفعهم إلى المكانة التي تليق بهم، فلولا سقوط البذرة في رحم التراب ما استطاعت أن تكون مظهرًا للفيض، فالمتواضعون يرفعهم الله عز وجل، ويمنّ عليهم بكرمه وفضله، ويجعلهم ذوي قامات عالية مرشدة للإنسانية، فها هو عبد القادر الجيلاني، ومحمد بهاء الدين النقشبندي، وأبو الحسن الشاذلي، والأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي رغم مرور قرون عديدة على رحيلهم فما زلنا نذكرهم بالخير والامتنان، وما زلنا نسترشد بالمؤلفات القيمة التي خلفوها لنا للاهتداء إلى سواء السبيل، وبدهي أن السبب الرئيس في عدم نسيان الناس لهؤلاء الفضلاء هو أنهم كانوا أبطالًا للتواضع والخجل ونكران الذات.. ونظرًا لأنهم صرفوا كلّ هممهم إلى إثبات وجود الله سبحانه وتعالى وليس أنفسهم؛ وهبهم الله تعالى وجودًا أبديًّا، ووضع ودّهم ومحبّتهم في قلوب عباده، ولما كانوا يركضون من أجل إثبات حقيقة التوحيد ثبّتهم الله على الطريق المستقيم، وجعل كلًّا منهم هاديًا ينير أفقنا ويرشدنا إلى الطريق المستقيم، ورغم مرور قرون على هذا فما زلنا نقرأ أورادهم، ونتصفّح مؤلفاتهم من أجل إيجاد حلول لمشاكلنا الحياتية.. فهل هناك تقدير وتثبيت أفضل من ذلك؟!
الأخطر هو أن يعمل الإنسان عملًا معتقدًا أنه لن يُحاسب عليه، فمثلًا أحيانًا ننسب أعمالنا الصالحة إلى أنفسنا، فنلوّثها دون وعي منا، فلو كنتم تقومون بأعمالكم واضعين في مخيلتكم أنه لا مثيل لها؛ فقد أبطلتم حياتكم القلبية والروحية في هذه الدنيا، ولم تتركوا شيئًا للآخرة، فإذا كان الكلام يدور حوله سبحانه وتعالى، وكل ما يجري من خدمات هو من أجله جل وعلا؛ فلا بد من أن تمحوا ذاتيتكم، فأصعب شيء على الإنسان أن يمحو ذاتيته، فقد يستطيع الإنسان أن يشطب على أشياء كثيرة، ولكن ليس من السهل أن يشطب على نفسه، فأكبر مشكلة لدى الإنسان هو نفسه التي بين جنبيه، من السهل الحديث عن هذا نظريًّا، لكن الأهم هو ما يجري في عالم الإنسان الفكري والشعوري.
لا ينبغي للإنسان أن يستسلم لليأس في حياة العبودية فَيضْنَى، ولا أن يثق بنفسه ثقةً مفرِطةً فَيَطغى.
نحن بحاجة ماسة إلى التجديد في كلّ هذه الأمور، فعلينا أن ندقق النظر في آرائنا وأفكارنا كل يوم، ونعمل على ضبطها ومعايرتها من جديد، ونراجع ما نحن عليه، وما نحن فيه، وما الحالة التي صرنا إليها، وإلا ظهرت انحرافات لا مفر منها، والأخطر من ذلك ألا ندرك أننا وقعنا في انحراف في الأصل، وأن نرى أنفسنا في أمان رغم ضلالنا المبين، واستدعائنا لغضب رب العالمين.
كثيرًا ما لا نستطيع التحكم في عقولنا ومشاعرنا، ولا ندري ماهية الخطط والأوهام التي نجري وراءها، فمثلًا قد يداخلنا الطمع في الأمور الدنيوية، ولا يهدأ لنا بال طمعًا في كسبها، أو يسيطر حب الدنيا على كل كياننا، ولا ريب أن مثل هذه الأفكار والمشاعر تنطوي على سوء أدب كبير مع الله عز وجل بالنظر إلى المقام الذي نحن فيه، وإن كان لا محل لها في قائمة الكبائر، ومن أجل تجنُّب كلِّ هذه المخاطر، يجب أن نراجع باستمرار علاقاتنا مع الله وأن نكون قادرين على إظهار الموقف الصحيح للعبودية.
[1] البخاري: التاريخ الكبير، 3/338؛ الطبراني: المعجم الكبير، 5/71.
[2] صحيح البخاري، الحدود، 6.