سؤال: ماذا عن سبل الخلاص من الوضع البائس الذي نعيشه منذ قرنين أو ثلاثة؟
الجواب: لقد عرضت لأمّتنا مصائب كبرى منذ نحو ثلاثة قرون على فترات تترى كل أربعين أو خمسين سنة. أجل، منذ مطلع القرن السابع عشر الميلادي حتى اليوم والمصائب تنهال علينا، وكأن الله جل جلاله يقول لنا على لسان الحوادث: “تنبّهوا، واستفيقوا، وعودوا إلى هويتكم الأُمّ!”؛ يقول هذا ليؤدِّبَنا ونحن لا نستوعبُ الدرس اللازم جيّدًا ولا نعتبر؛ لذلك ما زلنا نرتكب أخطاء تنجم عنها مثل تلك المصائب والبلايا، وكأننا ندعو الله بأن يرسل علينا مصائب أخرى.
أجل، لقد قلنا: إن المصائب تتوالى، من ذلك أن البيوت هُدِمَت في الحرب الروسية العثمانية (حرب 93)، وخربت الدور والأنزال ونُهبت البيوت والمنازل وشَنَقَ الجنود الروس الجنودَ الأتراك، وعلقوا كل واحد على شجرة، فانكسرت الأمّة وانقصمَ ظهرها… ثم اندلعت حرب البلقان… ثم الحرب العالمية الأولى، واضطر جنودُنا إلى القتال في كل الجبهات… اضطروا لذلك، فذهب معظمهم إلى جبهات مختلفة دون عودة، وصارت كل هذه الأحداث قضايا تُطرَق في الشعر والمراثي والأناشيد. والأبيات التالية غيض من فيض:
هذا هو اليمنُ طريقه سهلٌ مُعشِبُ
ذاهبُهُ لا يرجعُ يا تُرى مــا الـــسببُ؟
سبيل الخلاص من المصائب هو: أن يسود الاستغفار حياتنا كلها، وأن ننقش حبّ رسول الله عليه الصلاة والسلام في قلوبنا، وأن نتبينَ أخطاءنا سريعًا.
وقد ذكرنا أنّ هذه الحوادث المؤلمة هي في واقع الأمر مصائب منّ الله بها علينا حتى نعود إلى ذاتِنا، وفيها بعدٌ من الإحسان للقادرين على الانبعاث من غفلتهم، أمَّا إذا ما فتئنا ندور في حلقات تلك الدائرة الفاسدة ولم نعتبر بهذه المصائب كما ينبغي فلا شكّ أنها ستستمرّ، بل ستحلّ بنا أضعافًا مضاعفة، ولن ترتفع عنّا؛ وهذا يعني أن هذا المستنقع قُدّر لنا فترةً أخرى حتى نكون بين مصيبتين: نفاق المنافقين منّا وضرر الأعداءِ المعتدين من غيرنا، لكننا إذا ما أفقنا وتوحَّدْنا مع روحنا وجوهرنا وعدنا إلى ذاتيتنا، فإن الله القادر على كل شيءٍ سيهدينا سبلَ السعادة، لنتوجَّه إليها ونسير فيها.
هل نحنُ وحدَنا دون سوانا عرضةً لهذا الضرب من المصائب؟ لا. أبدًا، انظروا إلى سائر بلاد العالم الإسلامي سترون المشهد نفسه، لذلك يمكن القول: إنه قَدَرٌ جامع للعالم الإسلامي إنّه لا مكانة للدول الإسلامية بين الدول في هذا العصر، ولا وزنَ لها في التوازنات الدوليّة. أجل، لقد تشرذَم العالم الإسلامي في هذا العصر وصار لُقيماتٍ سائغة، بل جُعِل هكذا، فكثير من هذه الدول اليوم صارت مسرحًا لأنواع شتى من الظلم لا يتخيّلها عقل، علمًا أننا لم نكن هكذا بالأمس القريب… لم نكن هكذا، لـمّا همّ الفرنسيون بعرْض مسرحيّة “فولتير” المسيئة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنذرهم برسالةٍ ذاك الذي يسميه الغرب “السلطانُ الأحمر” عبد الحميد خان الثاني -جعل الله الجنة مثواه-، فرُفِعت فورًا من على خشبة المسرح وكانت قد بيعت تذاكرها؛ ثمّ همّ الإنجليز بعرضها فأنذرهم أيضًا، فاضطروا لإلغاء العرض، جرت كلّ هذه الأمور طبعًا في فترة كان الغرب فيها يسمي الدولة العثمانية “الرجل المريض”، وهذا أمر له مغزًى كبير.
والآن يا تُرى ما الحلّ وما السبيل للتخلص من كل هذا؟ إن أردنا أن تكون لنا الكلمة من جديد في السياسة العالمية وفي إدارتها، ونرتقي إلى مستوى أمةٍ كلمتها نافذة، فلدينا أمر أو اثنان دلت عليهما إحدى الآيات الكريمة في حديثها عن هذا الموضوع، يقول الله جل جلاله لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (سُورَةُ الأَنْفَالِ: 8/33)؛ ففي هذه الآية أمران يسترعيان الانتباه، ويمنعان العذاب:
الأول: وجود سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتًا وروحًا؛ وقد وفّى الله تعالى بوعده هذا في عصر الصحابة الكرام ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم جسدًا وذاتًا، أي إنه لم تحل بأمته صلوات ربي وسلامه عليه في عصر السعادة تلك المصائب والابتلاءات السماوية والأرضية التي حلّت بقوم نوح ولوط وصالح وغيرهم من الرسل والأنبياء عليهم السلام.
والآن ليس بيننا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده، فجسده غدا في عالم البرزخ، وكلّ مخلوق فانٍ، غير أننا إن أحييناه دائمًا في قلوبنا وأفئدتنا أمكنَنَا سدّ تلك الفجوة؛ لذلك يمكننا أن نستفيد من الحكم المذكور في الآية برفع العذاب لوجوده المعنوي بيننا صلى الله عليه وسلّم.
لقد تشرذَم العالم الإسلامي في هذا العصر وصار لُقيماتٍ سائغة.
الثاني: الاستغفار وملازمته… أجل، إنّ سادتنا الذين كانوا لنا المرشد والدليل بأقوالهم وأفعالهم وتصرفاتهم وسلوكهم منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان حتى اليوم وفي مقدمتهم سيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم لَزِمُوا الاستغفار وربما لم تكن لهم ذنوب؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلًا يستغفر في اليوم سبعين مرة أو مائة مرة على اختلاف الروايات[1]، وكان الصحابة الكرام الذين اتَّبَعوه يتوجهون إلى الله فورًا يستغفرونه مما قارفوه أو ظنوا أنهم قارفوه، ويتحرّون سبل غفران الذنوب، فكان مَن بعدَهم يهتدي بهديهم.
تبين إذًا أنّ الاستغفار الذي جعله الله تعالى سببًا لرفع العذاب كان في حياة أسلافنا بكل ما فيه من حيويّة، وكان يُتحَصّنُ به.
والآن أرى أننا -نحن أبناء العالم إسلامي- ابتعدنا تدريجيًّا عن الحياة الإسلامية منذ مطلع القرن السابع عشر حتى اليوم، بعُدنا وخضنا في الذنوب، ولطالما غدت الحياة الدنيوية همّنا، وجفونا القرآن والرسول وأوامرهما في حياتنا، وفوق هذا عجزنا أن ندرك أن كل ما فعلناه ذنب وإثم، وعجزنا عن الاستغفار؛ لهذا أرسل اللهُ العدْلُ علينا وابلًا من أصناف المصائب والابتلاءات.
والآن وفي ضوء هذا يتبيّن أن سبيل الخلاص من هذه المصائب هو: أن يسود الاستغفار حياتنا كلها، وأن ننقش حبّ رسول الله عليه الصلاة والسلام في قلوبنا، وأن نتبينَ أخطاءنا سريعًا، ونبحث عن حلٍّ ومخرج للسير والخلاص. أجل، هكذا ستنهض -إن شاء الله- هذه الأمة ماديًّا ومعنويًّا، وتعود كرّةً أخرى إلى عصور المجد السابقة.
[1] صحيح البخاري، الدعوات، 3؛ صحيح مسلم، الذكر، 41.