سؤال: ما الأمور التي ينبغي مراعاتها كي تُشير إبرة النية إلى أفق الإخلاص دائمًا؟
الجواب: على الإنسان أن يكون مخلصًا في قوله وفعله كلِّه ليبلغ رضا الحق تعالى؛ لأنه إن كان العمل جسدًا فالإخلاصُ روحه، وإن كان جناحًا فالإخلاص هو جناحه الآخر، ولا حياة لجسد دون روح، ولا يمكن الوصول إلى الهدف إلا بجناحين، ربّ كلمةٍ تُقَال بإخلاص لها ما لها من القدر عند الله تعالى، تتحدث عنها الملائكة فيما بينها، وتجعلها وِردًا لها، وتتخذها الأرواح تسبيحًا تردّده.
إذا انبعثت الكلمات من وَتَر القلب الحسّاس، وحرّكتْ ساكنَه رِيشةُ الحَماس، فإن الألسنة تتناقلها وتطيرُ بها حتى إنها لتصل “حظيرة القدس”؛ وهذا الضرب من الكلمات التي تقال بصدق وإخلاص تظلّ دائمًا تفيض حسناتٍ في صحيفة قائلها طالما الذاكرة الإنسانية ما زالت تعيها؛ إذ تتكاثر كل كلمة من هذا الضرب ولا تتناهى بفضل نُسَخها وصُوَرها.
على الإنسان أن يستصغر نفسه ويحقِّرها، حتى إذا نظر في المرآة قال: “يا الله! لما تأمّلتُ عالمي الداخليّ رأيتُ نفسي قد هَوَتْ من مستوى الإنسانية إلى درك الحيوانية.
أعمال أهدَرتها المباهاة
قد يخسَر المرء حيث يُرجَى الربح؛ وذلك فيما إذا راح يصبغ الأمر بصبغته الشخصية، ويسعى لإثبات ذاته من خلال الحديث عن نفسه وجهده؛ ومرادنا بحديثه هذا كلامه، ونَفَسُه، ونبرة صوته، وقَسِمات وجهه… فيُحرم المكافأةَ المباركة المذكورة من قبل.
فمثلًا؛ ما أَجمَلَ وما أروَع وِرد “سبحان ربي العظيم”، و”سبحان ربي الأعلى”، و”ربنا لك الحمد” في عبادة علوية مثل الصلاة التي تطوف بالإنسان في سماوات الخلود، وتبلغ به عالم الملائكة، وكم هو عملٌ خليق بالتقدير؛ غير أنَّ هذه التسابيح تصير كلماتٍ ميتة، مهيضةَ الجناح، عاجزة عن التحليق، وتصير عبادة الصلاة الجميلة قالبًا بلا روح واسْمًا بلا مسمّى إن خطر ببال من يردّد هذه التسابيح: “إنني أسبّح، فليسمعْني الآخرون”.
أجل، لو نوى العبد -ولو بنسبة واحد بالمائة- أن يُسمِعَ الآخرين هذه التسابيح فقد ضيّع روح تلك الكلمات ونسفها نسفًا.
إن من لا يحاسب نفسه ولا يحقّرها لا يلبث أن ينشغل عبثًا بعيوب غيره بلا وعي.
ومثلُها كل الأعمال الأخروية كالأذان، وإقامة الصلاة، وقراءة القرآن فيها… فمثلًا إن تتبع الإنسان وهو في الصلاة لجرس لمعاني القرآنية، وانقياده لجريان ذلك الشلّال شيءٌ، وسعيه للتعبير عن ذاته في الصلاة بتباهيه بصوته شيء آخر مختلف جذريًّا، وليُعلَم أن الحصة التي يأخذها الإنسانُ لنفسه من العبادات، ينقص مقدارها من الأجر عند الله تعالى، وتغدو عائقًا يمنع ذلك العمل من أن يُحلِّق عاليًا، كطائر قُصّ جناحاه.
إذًا على الإنسان أن يَحْتَبِسَ في الإخلاص في كل عملٍ يضطلع به، فيبدوَ للعِيان صغيرًا إذا نُظر إلى ظاهره لكن بشرط ألا يكون أسوة سيئة، والمعنى أنه لا بد أن يكون مثل كوخ صغير ظاهره متواضع وجوانيّتُه أكثرُ سحرًا للعيون من قصرٍ شامخ.
إذا انبعثت الكلمات من وَتَر القلب الحسّاس، وحرّكتْ ساكنَه رِيشةُ الحَماس، فإن الألسنة تتناقلها وتطيرُ بها حتى إنها لتصل “حظيرة القدس”.
مأوى المحاسبة
على الإنسان أن يستصغر نفسه ويحقِّرها، حتى إذا نظر في المرآة قال: “يا الله! لما تأمّلتُ عالمي الداخليّ رأيتُ نفسي قد هَوَتْ من مستوى الإنسانية إلى درك الحيوانية، ومع ذلك يأبى الله أنْ يمسخ صورتي صورة حيوان”.
وعليه أيضًا أن يصارع نفسه ويُفْحِمَها، فيقولَ عمَّا قدَّمه من خدمات في سبيل الحق والحقيقة: “لو استنفدتُ كل ما آتاني الله من طاقات لاستطعتُ تبليغ الحق والحقيقة بأفضل مما فعلت، ولكنني أخفقت في استثمارها حقّ الاستثمار في هذا السبيل، بل أهدرتُها، فأين المروءة والوفاء للإسلام والقرآن؟ وا عَجَبا لِمَ لَمْ أُمْسَخْ حجرًا مثل “أوديت” حتى الآن”.
من ثمار هذه المحاسبة عدم الانخداع بمغالاة الآخرين وتملُّقِهم.
إن النظرة إلى النفس على هذا النحو تثير فيها رغبةً في الترقي؛ لأن الانسان ينشد الكمال دائمًا، فإن كان يرغب بالارتقاء إلى أعلى من مكانته، فعليه أن يوقن أنه في مكانة أدنى من التي ينبغي أن يكون عليها.
وإن الرحلة إلى اللامتناهي لا تعرف الانتهاء والانقطاع، يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا﴾(الْمَائِدَة:3)، وهذه الآية الكريمة تدلّنا على أفق الأكمليّة والأتميّة؛ من أجل ذلك لا بدّ أن نكون في سيرنا إلى اللامتناهي مسافرين لا نعرف الشبع، حتى وإنْ شربنا يومًا كأسَ المحبة والعشق من لدن يد الذات الإلهية المنزَّهة عن الكَمّ والكَيف، لَكان علينا أن نظلّ نقول: “هل مِن مزيد؟ هل من مزيد؟”.
وبلوغ الأكملية والأتميّة لا يتأتى إلا بمحاسبة الإنسان نفسه على الدوام، وإلا فإن عد الانسانُ ما هو عليه كمالًا، وتحرك من منطلق “لا مزيد على هذا!”، ولم يحاسب نفسه ولم يواجه قصوره وعيوبه، حُكِم عليه بالجمود حيث هو طوال العمر، واستحال عليه ألبتة أن يتذوق طعم الكمال.
ولتركِ محاسبة النفس وجهٌ سلبيّ آخر:
إن من لا يحاسب نفسه ولا يحقّرها لا يلبث أن ينشغل عبثًا بعيوب غيره بلا وعي، ثم إذا اجتمعت أنانية الجماعة بأنانيته الشخصية، عظم احتمال الخسران في الدنيا والآخرة، يقول الأستاذ بديع الزمان: “إن أنانية الجماعة تعزّز أنانية الفرد؛ لذا فمن الممكن أن يُقال: إن أنانية الجماعة آفةٌ عظيمة تَقتل وتُبيد وتهلك”؛ وسبيل الوقاية من هذه المخاطر كلّها هو المحاسبة الدائمة للنفس ومقاومتها باستمرار.
على الإنسان أن يكون مخلصًا في قوله وفعله كلِّه ليبلغ رضا الحق تعالى؛ لأنه إن كان العمل جسدًا فالإخلاصُ روحه، وإن كان جناحًا فالإخلاص هو جناحه الآخر.
فمثلًا، من الممكن أن يهيِّئ الله لإنسانٍ فرصةَ القيام بمهامّ عظيمة في بقاع مختلفة من العالم، فيستطيع ذلك الإنسان وحده فتْحَ قلوب الناس فيها، وسنَّ الطريق نحو بناء الحياة العلمية والمعرفية هناك؛ ومع كل هذا النجاح عليه أن يقول في نفسه: “لعل ثمة أعمالًا لم تُستَوفَ لأنني أنا من قام بهذا الأمر، ولو أنَّ مكاني شخصًا آخَرَ من أهل الفكر والقلب فلربما كانت الخِدْمات أضعافًا مضاعفة، يا ليت هذا الأمر لم يُوكَلْ إليّ”.
تلك هي روح المحاسبة الحقيقية للسائرين في سبيل الله.
إذا اجتمعت أنانية الجماعة بأنانيته الشخصية، عظم احتمال الخسران في الدنيا والآخرة.
ومن ثمار هذه المحاسبة عدم الانخداع بمغالاة الآخرين وتملُّقِهم؛ أي لو قام الإنسان بالنقد والتحليل والتقويم لنفسه عدة مرات يوميًّا، وضبَطَ علاقته بربّه وفقًا لهذا، لما التفت إلى ثناء الآخرين عليه ولَقال في نفسه: “أنا أعرفُ بنفسي، قد يكون للشيطان يدٌ في هذا الأمر”، وهكذا يقي نفسه من شِراك الغرور والكبر.
اللهم املأ قلوبنا بشعور المحاسبة، ووفِّقنا إلى حسن أداء ما كَلَّفْتَنا به تفضُّلًا منك وإحسانًا. آمين!