سؤال: هل ثمَّةَ فرقٌ بين الرضا والرضوان؟ وما أهمُّ الوسائل للوصول إلى رضوان الله تعالى؟
الجواب: إن الرضا يكون من الله ومن العبد، وهو والرضوان بمعنى واحد، إلا أن الرضوان يعبَّر به عن الرضا الكثير، وأعظمُ الرِّضَا رضا الله تعالى، لذا خُصّ الرّضوانُ في القرآن بما كان من الله تعالى”[1].
رضا العبدِ هو أن يرضى العبدُ عن الله سبحانه وتعالى، وعن دين الإسلام المبين الذي وضعه ربُّه، وعن رسول الله الذي بلّغنا هذا الدينَ الحنيفَ، وأن يُذعِنَ قلبيًّا لكل ما قدّره الله، وأن يستقبلَ ما حلّ به من بلايا ومصائب بسكينةٍ واطمئنان، يشير سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مثل هذا الأفق من الرضا بقوله: “ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا”[2].
على كلِّ مؤمن أن ينشد وظيفةَ إعلاء كلمة الله وأن يراعي الدقة البالغة عند أدائه لهذه الوظيفة من أجل الفوز بالإخلاص والمحافظة عليه.
ومن خلال هذا البيان المبارك يكشف النبي صلى الله عليه وسلم من جهةٍ عن طبيعة العلاقة بين العبد وربِّهِ، ويحدِّدُ لنا من جهةٍ أخرى الهدفَ الذي يجب علينا أن نصبو إليه؛ وفي قول مولانا تبارك وتعالى في مواضع عدَّةٍ من القرآن الكريم: ﴿رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 119/5) إشارة إلى أن بلوغ أفق الرضا هو أسمى غاية ينبغي للمؤمنين الوصول إليها.
فمَن حرص على الرضا، وجعله دائمًا جُلَّ همِّهِ، وغايةَ آمالِهِ، وسعى سعيًا حثيثًا في سبيله؛ ففي هذا دلالة على رضا الله تعالى عنه؛ لأن الله جلَّ جلالُه إن لم يرضَ عن عبدٍ من عباده حرَمَهُ الشعورَ بالرضا، وعلى ذلك يمكن أن يُقال إنّ مَن لم يَرضَ عن الله تعالى وقضائه وقدره ولم يقابِل كلَّ مصيبةٍ تنزل به بتسليمٍ وطيبِ نفسٍ فهذا يُعدّ علامةً واضحةً على عدم رضا الله تعالى عنه.
الرضوان: بشرى السعادة الأبدية
أما الرضوان في الآخرة فهو الجزاء الذي يتحصّل عليه العبد مقابل سعيِهِ وجُهدِهِ في الدنيا لِنَيلِ مرضاة ربِّهِ، ولا يعزُبُ عن عِلْمِكُم أنّ كلّ عبادةٍ يؤدِّيها الإنسانُ في الدنيا تتمثَّل له نعمةً من نِعَمِ الجنة في الآخرة؛ أو كما يقول الأستاذ بديع الزمان رحمه الله تعالى رحمة واسعة: “إن كلمةَ “الحمد لله” التي يقولُها المؤمنُ في الدنيا تصيرُ ثمرةً مجسَّمةً في الآخرة”[3].
أجل، إن الصائم الذي يصبر على الجوع والعطش في الدنيا سيحظى بالدخول من باب “الرَّيَّان” في الآخرة[4]؛ بمعنى أنه سيصل إلى منبعٍ إذا شرب منه فلن يظمأ بعده أبدًا؛ باختصار إن إيمان الإنسان وسلوكيّاته في الدنيا تتدثر بمعانٍ مختلفة في الآخرة، إذ تتمثل أمامه أحيانًا نعمةً محسوسةً تُرى بالعين وتُمسَك باليد، وأحيانًا أخرى انشراحًا في الصدر، أو موجاتٍ تحمل نسائمَ الرضا.
ومن ثمّ فالرضوانُ هو الفضلُ والإحسان الذي لا حدودَ ولا شواطِئَ له، يأتي على صورة جسمٍ محسوسٍ ملموسٍ يمنّ الله به على عباده المؤمنين في الآخرة، وبعبارة أخرى فالرضوان هو نعمةٌ تفوقُ كلَّ التصوُّرات، يتفضَّل الله بها على عباده المؤمنين في دار السعادة الأبدية؛ إذ يسقي اللهُ أرواحهم منها؛ فيشعرون بنفحةٍ من الذوق الروحاني واللذة المعنوية التي تُنسيهم حتى نعيم الجنة.
أيّهما أعظم فضلًا: الرضوان أم رؤية جمال الله تعالى؟
وفي هذا الصدد قد ترِد على الأذهان مسألة: أيّهما أعظم فضلًا الرضوانُ أم رؤيةُ الله تعالى؟ فمن خِلالِ ما ذكره علماءُ أصول الدين ذوو دراية كبيرة بالكتاب والسنّة الصحيحة يمكننا أن نستنبط أن رؤية جمال الله هي من أعظم نعم الجنة، وقد عبر الشيخ سراج الدين الأُوشي رحمه الله عن هذه الحقيقة في “بَدْء الأَمالي” وبيّنَ اعتقاد أهل السنة في هذا الأمر فقال:
يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ بِغَيْرِ كَيْفٍ وَإِدْرَاكٍ وَضَرْبٍ مِنْ مِثَالِ
فَيَنْسَوْنَ النَّعِيمَ إِذَا رَأَوْهُ فَيَا خُسْرَانَ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ[5]
ويقول الأستاذ النورسي رحمه الله: “إن قضاء ألفِ سنةٍ من حياة الدنيا وفي سعادةٍ مرفَّهة، لا يساوي ساعةً واحدةً من حياةِ الجنة! وإن قضاءَ حياةِ ألفِ سنةٍ وسنةٍ بسرور ٍكاملٍ في نعيم الجنة لا يساوي ساعةً من فرحةِ رؤيةِ جمالِ الجميل سبحانه”[6].
نعم، إن رؤية جمال الله فضلٌ إلهيٌّ عظيم يَــبُــزُّ نعيمَ الجنة، ومع هذا فإنّ النبيَّ r يقول:
“إِنَّ اللهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ!
فَيَقُولُونَ: لَبَّيكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيرُ فِي يَدَيكَ!
فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُم؟
فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِن خَلْقِكَ.
فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟
فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟
فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا”[7].
فخطابُ الله تعالى للمؤمنين في الجنة يدلُّ على أنّ الرضوانَ هو أعظمُ إحسانٍ يبعثُ الحبورَ والانشراحَ في نفس الإنسان لدرجةٍ تُنسيه رؤية جمال الله، ويُشْعِرُه بنسمات من الأذواق الروحانية التي يتعذَّر تخيُّلُها وتصوُّرها.
وقد ذكر ربُّنا سبحانه وتعالى صراحةً في سورة التوبة أن الرضوان هو أعظمُ نعيم الجنان فقال: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ﴾ (سُورَةُ التَّوْبِةِ: 72/9).
من طلبَ الرضا نالَ الرضوانَ
حاصل القول: إن رضا العبد عن ربه ورضوانَ الله عن عبده وإنْ كان كلٌّ منهما يعبّر عن حقيقة مختلفة نظرًا لتعلُّقِهما بالدنيا والآخرة إلا أن بينهما علاقةً وطيدةً تُشْبِهُ علاقةَ السببِ بالمسبّبِ والعِلَّةِ بالمعلولِ، فإذا ما أعطيتم إرادتَكم الجزئيّةَ حقَّها في الدنيا، وعبَّرتم عن رغبتِكم في رضوان ربِّكم، وبذلتم جهدَكم في هذا السبيل شرَّفكم الله برضوانه نتيجةَ ما قمتم به من سعيٍ وجهد محمودٍ.
غير أن هناك أمرًا علينا أن نفهمَه على الوجهِ الصحيح ولا نغفل عنه وهو: أن العلاقةَ السببيّة والعِلِّيّة بين هذين الأمرين لا تتوافق أو تنطبِقُ مع قانون السبب والنتيجة في العالم المادّيّ؛ لأنكم إن قطّرتم قطرةً واحِدةً من الرضا في الدنيا تبخّرت هذه القطرة وتَصَّعَّدُ في السماء وعَظُمَت حتى تصير بحرًا خِضَمًّا في الآخرة، بيدَ أن القطرة من حيث قانون السبب والنتيجة لا تفضي إلى بحرٍ ألبتة، ولكن الحقّ تبارك وتعالى بِلُطْفِهِ الذي لا حدَّ له وبرحمته الواسعة المُغدَقَة قد حوَّل رضاكم عنه الذي يُمثِّل قطرةً في الدنيا إلى محيطٍ متلاطِمِ الأمواجِ في الآخرة.
إن قضاء ألفِ سنةٍ من حياة الدنيا وفي سعادةٍ مرفَّهة، لا يساوي ساعةً واحدةً من حياةِ الجنة! وإن قضاءَ حياةِ ألفِ سنةٍ وسنةٍ بسرور ٍكاملٍ في نعيم الجنة لا يساوي ساعةً من فرحةِ رؤيةِ جمالِ الجميل سبحانه.
جَناحان يوصّلان إلى الرضوان: إعلاء كلمة الله والإخلاص
إن من أقصرِ الطُّرُقِ وأعظمِ السبلِ التي توصّل الإنسانَ إلى إحراز رضا الله ورضوانِه هو إعلاء كلمة الله تعالى. أجل، إن تبليغَ وإعلاءَ كلمةِ الله في كلِّ الأصقاع المظلمة من الأرض والعَدْوَ كالفرس العربي الأصيل دونَ تعبٍ ولا نصبٍ في سبيل أن تُرَفْرِفَ الروحُ المحمّديّةُ في كلِّ أرجاء العالم لَمِنْ أعظمِ الوسائل التي توصّل الإنسان على جناحِ السرعةِ إلى رضا الله، وعلى ذلك يمكن القول إننا وإن كنا نعتبر إعلاءَ كلمة الله وسيلةً للوصول إلى الرضوان فهي وسيلةٌ بمستوى الغاية.
فعلى الإنسان أن يهتمّ في جميع حركاته وسكناته بإحياء الآخرين، وأن يبذل وسعه لتتعلَّم الإنسانيةُ قواعدَ سلوكيّةٍ جديدةٍ، وأن يقتنِصَ الفُرَصَ في سبيلِ توجيه الإنسانية إلى الله تعالى، وأن يعشقَ هذه الوظيفةَ ويتعلَّقَ بها؛ حتى إذا لم يقدر على أدائِها نَدَبَ حظَّهُ واعتبر حياتَه التي يعيشها هباءً وعبثًا.
ولا جرم أن على الإنسان أن يكون مخلِصًا عند أدائه لوظيفة إعلاء كلمة الله حتى لا يخسر في موقعٍ هو أدعى للكسب، فالمُخلِص هو مَن يُجسِّدُ الإخلاصَ في شخصِه، لكن يجب عليه أن يركِّز تركيزًا تامًّا على مسألة الإخلاص هذه لدرجة أن يَتقالَّها ويسعى سعيًا حثيثًا ليكون من المخلَصِين، والمُخلَص هو الذي يَصِلُ بفضل ربه إلى درجة الخلوص والصفاء ويصفو ويصبح برّاقًا لامعًا حتى لكأنه هو الإخلاصُ عينُه، وهذه ميزةٌ خاصّةٌ بمن قال الله تعالى عنهم: ﴿وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ﴾ (سُورَةُ ص: 47/38) وعلى رأسهم الرسول الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن ينبغي للمؤمنين أن يُسدِّدوا نظرَهم إلى هذا الأفق العظيم حتى يصلوا إلى هذا الهدف السامي على مستوى “الظِّلّية” -إذ إن مستوى “الأصليّة” منه خاصٌّ بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام- وأن يتمثّلوا المرادَ الإلهيَّ دائمًا، ويُؤَدُّوا كلَّ عبادتهم كما أمرهم ربُّهم، وألا يربطوا عبوديَّتهم بأيِّ غايةٍ دنيويّةٍ، بل وينسلخوا من كلِّ غرضٍ أخرويٍّ سوى رضوان الله، وبعد ذلك يفوِّضوا نتيجةَ الأمر إلى الله تعالى.
مَن حرص على الرضا، وجعله دائمًا جُلَّ همِّهِ، وغايةَ آمالِهِ، وسعى سعيًا حثيثًا في سبيله؛ ففي هذا دلالة على رضا الله تعالى عنه.
وبذلك تبدأ طبيعة الإنسان الذي وصل إلى هذا الشعور في إعطاءِ ردِّ فعلٍ تلقائيٍّ حيالَ أيِّ شيءٍ خالٍ من الإخلاص، فمثلًا نجد هذا الإنسان لا يتشوّف ألبتة إلى أيِّ غرضٍ دنيويٍّ كتقدير الآخرين واستحسانهم حتى وإنْ أحرز نجاحًا يبهر العيون، أو قال كلامًا يُحرّك المشاعرَ في القلوب، أو كتب مقالًا يمتدحه عليه فُحُولُ الأدَبِ والشِّعرِ؛ فإن ورد بخياله العفويّ -ناهيك عن تصوُّرِه واستحضارِه- شيءٌ آخر سوى الله تعالى، انزوى على الفور، واستغفرَ ربَّه من الشِّرْكِ الخفيِّ، بل وعاتبَ نفسَهُ، ورمى بها في أحواض التوبة والإنابة والأوبة حتى يُخْرِجَها طاهرةً مطهرةً.
وهذا المستوى من الإخلاص هو من أهم الوسائل للفوز برضوان الله تعالى في الآخرة، فبِقَدْرِ تعمُّقِ الإنسان في إخلاصه في الدنيا بِقَدْرِ وصولِهِ سريعًا إلى رضوان ربِّه في الآخرة، وربما يعصمُه الله من هولِ القبر وفزعِهِ، فلا يذوق عذابَه ولا يتجرَّع معاناتِهِ؛ فاعتبارًا من اللحظة التي يوضع فيها هذا الإنسان في قبره يرتقي عموديًّا منتشيًا في هذا الأفق بما متّعه الله من لطائفَ ربّانيّة.
ومن ثم على كلِّ مؤمن أن ينشد وظيفةَ إعلاء كلمة الله وأن يراعي الدقة البالغة عند أدائه لهذه الوظيفة من أجل الفوز بالإخلاص والمحافظة عليه.
[1] انظر: الراغب الإصفهاني: المفردات في غريب القرآن، مادة “ر ض ي”.
[2] صحيح مسلم، الإيمان، 56.
[3] بديع الزمان سعيد النورسي: الكلمات، الكلمة الحادية والثلاثون، الأساس الثالث، ص 678.
[4] انظر: صحيح البخاري، الصوم، 4؛ صحيح مسلم، الزكاة، 85.
[5] الأوشي: بدء الأمالي، البيتان 20-21.
[6] بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، المكتوب العشرون، المقام الأول، ص 278.
[7] صحيح البخاري، الرقاق، 51، التوحيد، 38؛ صحيح مسلم، الجنّة وصفة نعيمها وأهلها، 9.