البرق عند الصوفي: نورٌ يتجلّى للسالك في أُولى مراحل طريق الحق، ويُعدّ دعوة أوَّلية لسالكي “القرب”، ويربط أهلُ الحقيقة “التجلِّي البرقي” بآيات كريمة وردت في القرآن الكريم بأساليب متنوعة، منها: “وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى* إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا”(صورة طه:20/ 9-1-)، فقد فهموا أن لمعان نورٍ كهذا فيه توجيه بأن المراد هو التذكير بمبدأ حقيقة النبوّة للأنبياء وحقيقة الولاية للأولياء.
ولما كان الإيمان والعمل الصالح واليقظة يُشكِّلون -مجتمعين- الخطوات الأولى للسياحة في طريق الحقيقة، فلا يصح إطلاق الخطوة الحقيقية الأولى على البرق، ولكن يمكننا أن نعطيه الأولوية النسبية ونعتبره إحدى الخطوات الأولى للأحوال وليس الأعمال.
والفرق بين البرق والوجد، أن الوجد يتجلّى في خلوة الحضور، أما البرق فيتجلّى أثناء الاستئذان بالدخول إلى ما هو ممنوع إلا عن المحارم، وعلى هذا فالوجد يرسل الشوقَ والقلق من أنوار “الحال” إلى صدر الإنسان، ويدفعه إلى أُفق “هل من مزيد؟”، ويدعوه كذلك إلى الرقي في الأحوال.
أما البرق فهو ضياءٌ يكاد سناه يذهب بالأبصار والبصائر، ويذكّر بانفراج باب الحبيب. ولنذكر هنا قول ابن الفارض الذي يجيش بالانفعال لمن هم في مرحلة اجتياز عتبة الولاية:
أَبَرْقٌ بَـــــدَا مِنْ جَانِبِ الطّـــــورِ أَمِ ارْتَفَعَتْ عَنْ وَجْهِ لَيْلَى الْبَرَاقِعُ
نعم أَسفَرَتْ ليلى فصار بوجْهِهَا نهارًا بِهِ نُورُ المحــــاسنِ سَاطِع
أجل، رغم أنه في ليلة الجسمانية إلا أن ليلى الماورائية بدأت تتراءى له رويدًا رويدًا، وألقتْ أمل الوصال في القلوب، فتحولت الليالي المخيمة على الصدور نهارًا.
ولنتناول البرق على ثلاث نقاط:
أوَّلًا: بما أن البرق تصريح بالسير في طريق الوصال فإنه يُعدّ نقطة انطلاق سياحة السالكين، ويمكن أن يعد إشارة إلى الواردات الأولى في السير إلى الله، والتي يأتي على رأسها؛ إشعار الله سبحانه لعبده المرشح للولاية بجلال إعطائه وعظمته، وبالتالي شعور العبد بعجزه وفقره أمام ربه، وإحساسه بمحبته وتعلّقه به سبحانه وتعالى، وانفتاحه إلى “الأُنس بالله” بدلاً من الأُنس بالفانيات الزائلات.
وأما مشقة السير ووحشة المكان، يحتاج السالك إلى استشعاره بعض الأشياء من قبيل ما حظى به سيدنا موسى عليه السلام في الطور، كي يُحوّل الوحشة إلى أُنسٍ، ونحن ننظر إلى البرق بنظرة الموازنة بين “المغرم والمغنم”حتى تُقابل مرارة السير بحلاوة الأُنس.
ثانيًا: مع البرق يُنبّه العبد إلى أنه في مقام الحضور، وتُعطى إشارة التمكين للسالك، وبهذه الإشارة يُقذَف التمكين والتدبير في قلب العبد عند الدخول إلى “حظيرة القدس”، ويُوجَّه عالمُه الداخلي إلى ضرورة الشعور بالرهبة مثل الرغبة؛ بحيث لا ييأس السالك ولا يلج في الشطحات.
ثالثًا: الواردات التي تأتي بطول موجة البرق هي إحسان بمثابة الزاط بالنسبة للسالك من أفق ملاطفة الرب الجليل؛ لأنه وسيلة افتخار من حيث المرسل ونتيجة افتقار من حيث المرسل إليه، وعندما يظفر السالك بهذه الخطوة يردد دائمًا ” قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا” (سورة يونس: 10/ 58)/ ويحمد ربه كلّما فكّر بما عليه من أفضالٍ سبحانية قائلاً: “كل شيء منه تعالى”، ويقول متذلّلاً ومُعْترفًا بعدم لياقته لهذه الأفضال كما قال “الشيخ محمد لطفى أفندي”:
نعمة لم أكن أنا الحقير أهلاً لها
فما سرّ هذا اللطف والإحسان؟!
وقول فخر الإنسانية صلى الله عليه وسلم: “أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ“* بمنزلة أَلْمَاسةٍ نادرةٍ جامعة لهذه الحقيقة.
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فَوَاتِحَ الْخَيْرِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى مِنَ الجَنَّةِ، وَصلِّ وَسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الشَّفِيعِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ذَوي الْقَدْرِ الْوَافِي.
المصدر: محمد فتح الله كولن، التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح الجزء الثاني، دار الانبعاث للنشر والتوزيع، القاهرة،2020، طـ2، صـ87/ 88/ 89.
*سنن الترمذي، المناقب 1، سنن ابن ماجه، الزهد، 37؛ مسند الإمام أحمد، 1/ 295.