سؤال: في أيامنا هذه نجد النزاعات والمشاجرات منتشرة بصورة كبيرة بداية من نطاق العائلة إلى غيرها من قطاعات المجتمع بأنواعها المختلفة، فهل هذا بسبب قلّة المصلحين الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم؟ ولو كان الأمر هكذا فكيف يمكن تلافي هذا القصور؟
الجواب: لقد وضع القرآن الكريم مبدأً في غاية الأهمية في هذا الموضوع بقوله ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/128)، وقد نزلت تلك الآية الكريمة في سياق الحديث عن حل النزاعات بين الزوجين مبيّنةً ضرورة استهداف الصلح عند حدوث ذلك، ولكن لا ريب أن الآية قد وضعت في الوقت ذاته مبدأً موضوعيًّا عامًّا لحل كل النزاعات والمشاكل التي قد تحدث داخل المجتمع بقطاعاته المختلفة؛ فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ وهكذا نجد القرآن يوصينا باتخاذ الصلح والتفاهم حلًّا لكل الإشكالات والمشاكل التي قد تثور بين أفراد الأسرة أو بين فئات المجتمع على حد سواء.
وإذا نظرنا للأمر من الناحية التاريخية فسنجد أنه بداية من عصر الرسالة والعصور التي تليه تنبه المسلمون لأهمية الصلح في تحقيق الاطمئنان والاستقرار داخل المجتمع، فحاولوا قدر استطاعتهم حلّ الخلافات الناشئة بين الأفراد والجماعات عن طريق الصلح.. وكانت الدولة تفعّل ذلك المبدأ القرآني في إطار مؤسّساتٍ عاملة بأسماء وعناوين مختلفة؛ بمعنى أن الدولة كانت ترعى بنفسها تلك المسألة، فإذا ما وقعَ خلافٌ بين الأفراد توجّهوا لهيئة تحكيمٍ وسيطة من أجل حلّ المشكلة وإزالة الخلاف، وفي يومنا لو أن الدولة اهتمت بالمسألة ووضعت القوانين واللوائح التي تنظمها؛ فلا بد أن هذا سيسهم بصورة كبيرة وسيكون له مردود إيجابي، فما يقع على عاتقنا نحن المسلمين اليوم هو بث الحياة في هذا المبدأ القرآني العظيم ومحاولة تفعيله فيما بيننا أو استخدامه في المواضع التي تمضي فيها كلمتنا.
سمات الغرباء الذين نالوا بشرى رسول الله
وفي هذا الصدد يَقُولُ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: “بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، ثُمَّ يَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ” قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: “الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ“[1].
أي إن النفاق والشقاق والخلاف والفرقة سيكثُر وينتشر بين الناس في هذا العصر الذي سيصبح الإسلام فيه غريبًا، وهذا الاختلاف والتنازع سيُظهِر نفسه في كل قطاعات المجتمع وبين الناس بعضهم البعض بدءًا من علاقة الأفراد داخل الأسرة الواحدة وحتى الرؤساء والمرؤوسين، فمن الضروري في مثل هذا الزمن أن تكون هناك زمرة لا تتدخل في مثل تلك النزاعات، وتنأى بنفسها عن كل أشكال الفرقة والاختلاف، وتوجِّه كل طاقتها وسعيها لنشر الوفاق والاتفاق، وإلى جانب كل تلك المساعي تنشد رضا الله والتوفيق الإلهي، فإذا تحقق على أيديهم الصلح والوفاق نسبوا ذلك إلى العون والتوفيق الإلهي، وهؤلاء هم الغرباء الذين جاءتهم البشارة في الحديث الشريف.
وبعبارة أوضح نقول: إن هؤلاء الغرباء هم الذين سيتمسكون بحبل الصلح والوفاق عند إفساد المفسدين وتلاشي كل جميلٍ بسبب إفسادهم، وسيقفون في مواجهة كل أشكال العنف والتطاحن، بل إنهم في قنواتهم التلفزيونية وفي جرائدهم اليومية يبتعدون عن الجدالات العنيفة والمناقشات العقيمة، ولن يكونوا ألبتة أداة للنزاع والشقاق حتى وإن كانت فئات المجتمع تتنازع وتتصارع ويأكل بعضها البعض، إنهم على العكس تمامًا؛ سيحاولون إصلاح ما حدث من تدمير وتخريب، ورغم سيطرة السلوكيات والأطوار الوحشية على مجتمعهم مثل مشاعر الثأر والانتقام والنعرات الدموية وجنايات الشرف؛ فلن تجد أبدًا في قاموس هؤلاء الغرباء وأسلوب حديثهم أيًّا من ذلك ألبتة؛ لأنه مخالفٌ كلّيّةً لمبادئ الدين الأساسية، فمثلًا إضافة كلمة “شرف” لجناية القتل لا يعطي تلك الجناية أية مشروعية، فالشرف يكمن في الأعمال والسلوكيات التي تقبَّلها المجتمع المسلم بعد أن اختبرها بالأدلة الشرعية ومرّرها بمصفاة الشرع، فاكتسبت الذيوع والانتشار، لكنّ قتلَ الإنسان لا يمكن توفيقه مع النصوص الدينية، ولذلك فكل تلك الأفعال تدخل تحت قائمة “الفساد” الوارد في الحديث النبوي الشريف.
ففي وجه كل فساد وإفساد يجب أن يكون هناك فريقٌ من المصلحين يقفون في صف السلام، ويتنفّسون الصلح دائمًا، ويوقفون أنفسهم لمهمة التوسط من أجل الإصلاح ونشر السلام؛ لأن مثل هذه الأفعال الشنيعة والدنيئة يصعب حلها عبر ما تضعه الدولة من قوانين وعقوبات وتشريعات فحسب، ولكن ما يجب أن يتم هو؛ إقناع العقول بالبعد عن مثل ذلك الفسق والفجور، واستنهاض القلوب والضمائر، وكذلك غرس حب الإنسان في نفوس أفراد المجتمع، وتطوير مشاعر الحب والاحترام، وشرح فوائد الصلح والوفاق.
ومن ناحية أخرى يجب تقوية مشاعر الإيمان بالآخرة والحساب، لأنه لا يملأ فراغ الإنسان شيء مثل التفكير في الآخرة والحساب أمام المولى سبحانه وتعالى، وفي يومنا هذا لم تستطع القوانين الجنائية ولا العقوبات القانونية أن تسدّ هذا الفراغ، ولا أن تمنع جرائم السرقة، ولا أن تتغلّب على الظلم والجور.
فلطالما لم يستقر في وجدانك الضمير الذي يلجمك ويردعك فإن تلك القوانين لن تعني لك شيئًا، فحتى وإن وضعتم أغلظ العقوبات وأشدها على النفس فإن المجرمين سيجدون طريقة ما للتملص منها، وسيبتكرون خططًا وإستراتيجيات لأفعالٍ إجراميةٍ لا تخطر على بال.
فإذا كان المجتمع يعيش حالة من الانحلال والتفسّخ كما يُشاهد في عصرنا هذا خاصة، ويسوده الانحطاط الأخلاقي فلا يمكن تجاوز تلك المعضلات دون إعمار القلوب بالإيمان بالله وبالآخرة، ولذلك فتقوية الإيمان وإرشاد الناس إلى طريق الإيمان التحقيقي من أهم طرق نشر الصلح والصلاح بين الناس.
مشكلات يمكن حلها بالسلم والتفاهم
فمثلًا مشكلة الإرهاب مشكلةٌ خطيرة قائمة منذ سنوات في تركيا، فلو أننا كنا استخدمنا السلم والتفاهم في حلها لكانت انتهت منذ وقت طويل، لو أن موظفي القضاء والموظفين المدنيين -وحتى المؤسسات الأمنية والموظفين العسكريين ورجال الدين الذين نشؤوا نشأة طيبة- أُرسلوا إلى المناطق التي تندلع فيها المشاكل بدلًا من محاولة قمع الناس هناك وسحقهم عبر استخدام القوة والسطوة، واستطاعوا احتضان ذلك المجتمع بمودة واحترام وتسامح؛ لكان شرق تركيا وجنوب شرقها تخلص اليوم من كونه مشكلة تزعج تركيا.
وعلى الرغم من أن سلطات الدولة تجاهلت مثل هذه التوصيات، ولم تشرع في عملٍ كهذا، وأصرت على مواصلة الاستعانة بالقوة الغاشمة إلا أنَّ ثمارًا طيبة للغاية تحققت نتيجة وجود بعض الأنشطة التعليمية والخيرية في فترة ما مثل توزيع متطوعي الخدمة للحوم الأضاحي، ومدهم يد العون للمحتاجين، وتبنيهم للأجيال الشابة من خلال المدارس والمراكز التعليمية المفتوحة، ولو أن مثل هذه الخدمات الجميلة لم يمنعها الظالمون والمعتدون لربما كان سيحدث تلاحم وتماسك حقيقي بين هؤلاء الفئات التي فُرِّق بينها منذ سنوات طويلة، واتخذت خطوات مهمة للغاية من أجل ضمان وحدة البلاد وسلامتها.
ما أردت قوله هو: لتفكِّرْ سلطاتُ الدولة أو شرائح المجتمع كما يشاؤون، ويفعلون ما يفعلون، ولكن يجب على متطوعي الخدمة الذين نذروا أنفسهم للإصلاح أن يواصلوا السير في طريقهم الذي بدؤوه، ينبغي لهم بذل قصارى جهدهم لجعل القيم الإنسانية والعالمية مثل السلام والتسامح والتوافق والحوار تسود في المجتمع، بل وفي العالم بأسره، ويستخدمون لذلك جميع الوسائل المشروعة.
فإذا كان هناك مجتمعٌ يتشاجر الناس فيه باستمرار، ويضرب بعضهم بعضًا، وتتفاقم فيه مشاعر الحقد والكراهية والعداء؛ فهذا يعني أن ذلك المجتمع يعيش حالة هذيان خطيرة، وغالبًا ما يؤدي مثل هذا الهذيان إلى انفصام الشخصية المجتمعية، وهذا خطر يهدد مستقبل المجتمع وسلامة الناس وسعادتهم؛ وبالتالي لا يجب تجاهله بأيّةِ حالٍ، لذلك يتحتم التدخل المباشر لحل مشاكل هذا المجتمع، وذلك من خلال اغتنام كل فرصة وإيجاد طرق بديلة مختلفة تمامًا، فإذا ما اعترضكم أحدٌ وحطّم الجسور التي تجتازونها وأنتم تسيرون في هذا الطريق، وجب عليكم سلوك طريق آخر على الفور والاستمرار في المضي قدمًا إلى هدفكم دون توقف.
التخلق بالأخلاق الإلهية
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: “رَجُلانِ مِنْ أُمَّتِي جَثَيَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَبِّ خُذْ لِي مَظْلَمَتِي مِنْ أَخِي، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْطِ أَخَاكَ مَظْلَمَتَهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا بَقِيَ مِنْ حَسَنَاتِي شَيْءٌ، فَقَالَ: يَا رَبِّ فَلْيَحْمِلْ مِنْ أَوْزَارِي“، وَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: “وَإِنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَيَوْمٌ عَظِيمٌ يَوْمٌ يَحْتَاجُ فِيهِ النَّاسُ إِلَى أَنْ تُحْمَلَ عَنْهُمْ أَوْزَارُهُمْ“، ثُمَّ قَالَ: “قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلطَّالِبِ بِحَقِّهِ: ارْفَعْ رَأْسَكَ فَانْظُرْ إِلَى الْجِنَانِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَرَأَى مَا أَعْجَبَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ، فَقَال: لِمَنْ هَذَا يَا رَبِّ؟ قَالَ: لِمَنْ أَعْطَانِي ثَمَنَهُ، قَالَ: وَمَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ يَا رَبِّ؟ قَالَ: أَنْتَ، قَالَ: بِمَاذَا؟ قَال: بِعَفْوِكَ عَنْ أَخِيكَ، قَالَ: يَا رَبِّ فَإِنِّي قَدْ عَفَوْتُ عَنْهُ، قَالَ: خُذْ بِيَدِ أَخِيكَ فَادْخُلَا الْجَنَّةَ”، ثُمَّ قَالَ: وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ”[2].
ربما تُعزى صفة “مصلح” إلى الحق تعالى انطلاقًا من مفهوم هذا الحديث الشريف، لكننا لا نجد مثل هذا الاسم لا بين الأسماء الحسنى التسعة والتسعين المشهورة، ولا بين الثلاثمائة اسم التي ذكرها “محي الدين بن عربي”، ولا بين الألف اسم الواردة في الجوشن الكبير، فالأسماء الحسنى “توقيفية”، أي إننا لا نستطيع أن نعزو إلى الذات الإلهية اسمًا لم يرد في القرآن الكريم أو في السُّنة النبوية، ولكن يمكن نسبته إلى الله عز وجل بمنظور ومقاربات بعض العلماء الذين يضعون مسمّى للمعاني التي تعبر عنها الأفعال المنسوبة إلى الله تعالى في القرآن والسنة، وينسبون هذا الاسم إلى الله، من جانب آخر فإننا وفقًا لما ورد في الأثر لا نعرف جميع أسماء الله تعالى، إننا نعرف الأسماء التي تتعلق بحياتنا الشخصية والعائلية والاجتماعية، أو ترتبط بصلتنا بالحق تعالى؛ وبعبارة أخرى: إن ما نعرفه في الأسماء الإلهية هو ما يعنينا مباشرة.
علاوة على ذلك فإننا لا نعرف جميع الأسماء التي ستتجلى في الآخرة، كما أننا لا نعرف الأسماء التي ستتجلى حتى تلك اللحظة التي ستتواجد فيها العوالم المادية، لذلك يمكن أن يكون اسم “مصلح” بين تلك الأسماء.
وأخيرًا بما أن التخلّق بأخلاق الله تعالى يُعدّ هدفًا مهمًّا بالنسبة للمؤمنين فإنه يجب على كل المؤمنين أن يكونوا مصلحين، وينبغي لهم العمل على تهيئة جوٍّ من الصلح والسلم الدائم في كل الدوائر التي تعنيهم بدءًا من أقرب دائرة إليهم إلى أبعد دائرة؛ وذلك من خلال القضاء على كل أنواع البغضاء والشحناء، وتهدئة الصراعات والمنازعات ونشر السلم والسلام.
[1] مسند الإمام أِحمد، 27/237.
[2] الحاكم: المستدرك، 4/620.