سؤال: تقولون: إنَّه كان من الحتمي اجتماع آلاف الوسائل كي يتحقَّقَ ما أُنجِزَ من خدمات حتى الآن، وإنَّه لا قِبلَ لأحدٍ على الإطلاق أن يفعلَ هذا سوى الله تعالى خالق الأسباب ومالكها جميعها؛ وإنَّ نسبةَ النجاح إلى النفس والذات سلوكٌ غير عقلاني، فهل توضحون معنى ذلك؟
الجواب: بدايةً لا بدَّ من بيان أن مسألةَ تحقُّق النجاحات الملموسة بلطفِ الله مسببِ الأسباب وإحسانِه سبحانه وتعالى ليست محصورةً بنا ولا حكرًا علينا وحدنا دون غيرِنا؛ وإنّما هي سنّة الله المتعاقبة على مدار التاريخِ، ومن ذلك مثلًا أنَّ سيدنا نوحًا عليه السلام بعد أن نجا من الطوفان بإذن الله تعالى وعنايته -كما هو وارد في كتب التفاسير- وَاصلَ تبليغ الناس بالحقِّ والحقيقة في الفترة التالية لنجاتِهِ أيضًا؛ فأعتَقَ أمته من رِقِّ الحيوانية وخَلَّصَها من محبسِ البدنِ الضيق، ووجَّهَها إلى مرتبة حياة القلب والروح، وقد اتَّجَهَت هي كذلك إلى الله تعالى وحاولَتْ الوفاء بشروط العبوديةِ وواجباتِها، ومن ثمَّ فإنَّ مظاهرَ العناية الإلهيّةِ تبدو بمجرَّد النظر إلى حياة سيدنا نوح عليه السلام المليئة بالكفاح والنضال واضحةً وضوحَ الشمس، لأنه إن أُرجِعَ الأمر إلى الأسباب فحسب يستحيلُ تفسيرُ وفهمُ كيفيّةِ نجاتِه من الطوفان وكيفيّة تأثيره في الناس بعد ذلك، ألا يُبيِّنُ الله تعالى بقوله ﴿بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ (سُورَةُ هُودٍ: 41/11) أنَّ سفينةَ نوح عليه السلام تتحرَّك وتَقِفُ بعناية الله ورعايتِهِ؟! إذًا إنّها العناية الإلهيّة وليست الأسباب.
لا احتماليّة ولا إمكانيّة لتحقيقِ أيِّ نجاحٍ على أرضِ الواقع ما لم تحالِفْه قدرة الله تعالى وعنايته.
وعلى نفسِ الشاكلةِ أيضًا؛ فإنّه لمن العسيرِ بمكانٍ على الأسبابِ أن تُقنِعَنا بنجاة سيدنا موسى عليه السلام من ظلمِ فرعون، وأن تشرحَ لنا تِيهَ بني إسرائيل في صحراء “التيه” أربعين سنة بعد خروجهم من مصر، وأن توضِّحَ لنا كيفيّةَ دخولهم تحتَ لواءِ سيدنا يوشع بن نون عليه السلام إلى أرض فلسطين بعد فترةٍ زمنيّةٍ معيّنةٍ؛ لأنه إذا ما نُظر إلى الأمر من زاوية الأسباب فإنَّ مثل هذه الحادثة تتحقق بنسبة واحد في المليونين.
الرعاية الإلهية والمؤامرات الفاشلة
إذا نَظَرْنا إلى الحياة المباركة لمفخرة الإنسانيّة صلى الله عليه وسلّم فإننا نُشاهِدُ العنايةَ والرعايةَ الإلهيّة فيها بوضوحٍ وجلاءٍ تامَّين؛ لأن المشركين كانوا يَسعَون دائمًا إلى تحطيم آمالِهِ هو والمسلمين؛ إذ كانوا يترصَّدونهم عند كلِّ ناصيةٍ كالوحوشِ الكاسرة فَيُهاجمونهم على حينِ غِرَّة، ويُذيقونهم شتى أنواع الأذى، بما في ذلك القتلُ وإراقة الدماء، إلا أنَّ هذه الشخصية الخالدة عليها الصلاة والسلام لم تيأسْ قطُّ ولم تقنطْ؛ فكان صلى الله عليه وسلم ذا حالةٍ روحيّة فريدة؛ كأني بالشاعر التركي “سليمان نظيف” حاول التعبير عنها قائلًا:
ما دامت روحي مفعمة بهذا الإيمان فإنها
تصبر ثلاثمائة، أربعمائة، بل وخمسمائة عام
إن أبطال التربية والتعليم المتطوِّعين في عصرنا هذا أيضًا تلقّوا رسالة مولانا جلال الدين الرومي: “لا تفقد شمعةٌ أشعلت غيرَها شيئًا من نورها”.
وكما ورد في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (سُورَةُ الأَنْفَالِ: 30/8)؛ فقد كان مشركو مكّة يُدبِّرون مكائد شتى للتخلص من سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم، ولما حُوصر بيته عليه الصلاة والسلام ولم تبقَ ثمَّةَ إمكانيّة للنجاة حسبَ قانون السبب والنتيجة، ولـمّا سالت الدماء الزكيّةُ من رأسِه المباركة نتيجة لِشَجِّ خدِّه المبارك وانكسار سِنِّه الشريفة في غزوة أُحُد، كان يعيش نفس القَدَرِ المشترك مع غيره من الأنبياء، وباعتبار الأسباب فإنَّ العثور على مخرج في أيٍّ من هذه الحوادث لم يكن ممكنًا، لكنَّ الله جلَّ جلاله كان ينقذُ رسولَه الحبيب في كلِّ مرة بشكل معجزٍ، فلقد حمى الله نبيَّه وعصمَه من الناسِ واستلَّه من بين جحافلِ الكفرِ والفجورِ المحاصِرَةِ للبيتِ النبويِّ كما تُستَلُّ الشعرةُ من العجين، ثمَّ يسَّرَ له اجتيازَ طريقٍ يزيدُ طولُهُ عن أربعمائة كيلومتر، ومكّنَهُ من قطعِهِ دون أن يُمسِكَ به أحد، حتى إن سراقة بن مالك المدلجيّ الكناني الذي اقتصَّ أثَرَهُ من خلفِهِ لِيُمسِك به خَابَ وزَلَّ فعاد أدراجَه، ووَجَّهَ قُفاةَ أثرِ المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وقيَّافَةَ سَيرِهِ إلى جهةٍ أخرى تضليلًا لهم عن خطِّ سَيْرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم[1].
والواقعُ أننا حين ننظر إلى الأمر بنظرةٍ متأنِّيةٍ يتبيَّن لنا أنه تتسنى مشاهدةُ مظاهر العناية الإلهيّة في حياة جميع المجاهدين في سبيل الله تعالى، ومن أمثالِ تلكَ القامات والشخصيّات العظيمة “طارق بن زياد” و”عقبة بن نافع” رحمهما الله، فكما هو معلومٌ فَتَحَ عقبة بن نافع إفريقيا من أوَّلِها إلى آخرِها، وقد سارَ حتى بلغ شواطِئَ المحِيطِ، فقال: “يَا رَبِّ لَوْلَا هَذَا الْبَحْرُ لَمَضَيْتُ فِي الْبِلَادِ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِكَ”[2]، وحين ننظرُ إلى الحياة النموذجيّة لهؤلاء الأفاضِلِ يتبيّن لنا أن هذه النِّعَم التي وُهِبت لهم إنّما تحقَّقَتْ باجتماع العديد من الاحتمالات فقط، ويمكن أن يُضمَّ إلى هذه الأمثلة أيضًا ازدهارُ الدولة العثمانيّة، وفتح إسطنبول، وخدمات مَنْ نذروا أنفسهم للدين، والتي بَدَأَتْ بالأستاذِ بديعِ الزمان ولا تزالُ مستمرَّة في يومنا هذا أيضًا، فمثلًا لم يكن ثمَّةَ احتمالٌ في بداية الأمر بأن يُحدِث الأستاذ انفتاحًا بهذا المستوى الذي تحقَّق حاليًّا؛ فقد وُضِعَ تحت المراقبة الدائمة، فكان وكأنه يخضع لمتابعة حثيثةٍ، ونُفِيَ من هنا وهناك، إلا أنَّ أنوار القرآن والإيمان التي عرضها بإذن الله تعالى وعنايته انتشرت في كلِّ الأنحاء والأرجاء بالرغم من كل هذه السلبيات، فالأستاذ بديع الزمان رجلٌ من رجالات الأمل، إذ كان يصدَحُ به حتى في أحلك الظروف ويقول: “كونوا على أمل؛ إن أعظم صوت مدوّ في انقلابات المستقبل هو صوت الإسلام الهادر”[3]، ويبعث الأملَ فيمن حوله بقوله أيضًا: “وأنا على يقينٍ بأنَّ مستقبل آسيا بأرضِها وسمائِها يستسلِمُ لِيَدِ الإسلامِ البيضاء”[4]، وحين نُفكِّرُ في ظروفِ ذلك العصر نرى أن كل هذه أمورٌ لا تتحقَّقُ في ظلِّ الظروف الطبيعيّة، غير أنَّ هذه الخدمات قد تكون مظاهر لِبشاراتٍ سِيقَتْ في تلك الأيام.
واحد في المليون
إن أبطال التربية والتعليم المتطوِّعين في عصرنا هذا أيضًا تلقّوا رسالة مولانا جلال الدين الرومي: “لا تفقد شمعةٌ أشعلت غيرَها شيئًا من نورها”، وهم ينفتحون على كلِّ أرجاء الدنيا بمصدر الضياء الذي في أيديهم، ويحظون بفضل الله تعالى وعنايته بحُسنِ القبول أينما حلّوا، والواقعُ أن الخدمات الحاليّة يمكنُ أن تتحقَّقَ باجتماعِ مجموعةٍ من الشروطِ والظروفِ، مثلُها في ذلك مثلُ تلك الخدمات التي تحقَّقت في الفترات السابقة، فإذا تحدثنا مثلًا عن أوَّلِ انفتاح تحقَّقَ في التسعينات من القرن المنصرِمِ في آسيا الوسطى نجدُ أنه في تلك الفترة التي تفكَّك فيها اتحادُ الدول بعدَ أن كان يُشكِّلُ إحدى القوى العظمى في العالم آنذاك؛ كان لا بدَّ من وجود مدرِّسين ومُرَبِّين شباب يافعين يستطيعون الذهاب إلى تلك الأماكن تطوّعيًّا، وعلى الرغمِ من كلِّ الظروف الصعبة التي كانت تنتظرهم هناك كانت الرغبة والأمل تَحْدُوَانِهم في الذهاب إلى تلك الدول التي لا يعرفون مكانَها حتى على الخارطة، وكان لهؤلاء الشباب من الرجالِ والنساءِ المتخرِّجِ معظمهم حديثًا أن يرغبوا في البقاء ببلدهم والخدمة فيها؛ فدَاءُ الصِّلَة (الحنين إلى الوطن) صعبٌ جدًّا؛ غير أنهم رغمَ حداثَةِ سنّهم تجاوزوا هذه المشاعر وتغلّبوا عليها، وذهبوا إلى بلادٍ لا يعرفون عاداتها وتقاليدها، ولا حتى لغاتها دون أيِّ تردُّدٍ أو قلقٍ، ويجب ألا ننسى أنَّه كان لآباء وأمهات هؤلاء الذين نذروا أنفسهم وهم حديثو العهد بالتخرج من مدارسهم بعضُ الرغبات والأمنيات التي يطمحون في أن تتحقق، ولكن كيف أقنع متطوّعو التربية والتعليم الذين نذروا حيواتهم للإحياء آباءَهم وأمهاتِهم!؟ -ما أجمل ما أقنعوهم به!!- وكيف رضي هؤلاء الآباء والأمهات بذلك، واستطاعوا مفارقة أبنائهم!؟ إن هذه لمسألة أخرى يطولُ الحديثُ حولَها، وفي نفس الوقت فإنَّ ثمة قسم من هؤلاء الفدائيين الذين ذهبوا إلى دول شتى اضطروا إلى مفارقة مخطوباتهم مدة من الزمان والذهاب إلى تلك البلاد، فلا المفارِقُ ولا المـــــُفَارَقَ رأى أن هذا الشوق والهجران يمنع من الخدمات المنشود أداؤها، وإنما أبانوا عن فدائيّة تبهرُ العيون وتبكيها قائلين: “هذا هو ما يلزم عمله والقيام به الآن من أجل أُمَّتنا والإنسانيّة جمعاء”، وعندما نُفكِّرُ في كلِّ هذه الأمور مجتمعةً يبدو اجتماعها وتحققها جميعًا في نفس الوقت وكأنه أمرٌ مستحيل الوقوع في إطار دائرة الأسباب.
فضلًا عن ذلك فإنَّ الأسباب اللازمة لهذه الفعاليات الجميلة التي تتحقَّقُ لِصالِحِ الإنسانيّة لا تقتصرُ على هذا الأمر فحسب؛ فَثَمَّةَ حاجةٌ إلى مُمَوِّلين فدائيِّين يؤمنون بصحّة الخدمات التعليميّة وضرورتها، ومن الصعبِ إلى حدٍّ كبيرٍ العثورُ على هؤلاء المموِّلين وإقناعُهم بالأمرِ وطلب تكفُّلهم بالاحتياجات المادّيّة لهذه الخدمات تطوُّعيًّا، وهنا أريدُ أن أزيدَ الأمرَ توضيحًا عبر الحديث عن حادثةٍ واقعيّةٍ حدَثَت معي شخصيًّا؛ فقد كنتُ أزور سويًّا مع رجلين ثَرِيَّين المصانعَ في مدينة “إزمير” بحثًا عن دعمٍ للمعهد الإسلامي العالي الذي سيُنْشَأُ هناك، ونَطْلُبُ المساعدةَ من أصحاب تلك المصانع، فكانا يصطحبانِني معهما كالواعظ كي يُبَيِّنُوا للناسِ مدى أهمّيّة المسألة ويقنعوهم بها بشكلٍ أيسر، وبعد أن تحدَّثْنا عن أهمية المسألة في أحد مصانع الطوب التي زرناها من أجل هذا المقصد والهدف أخرجَ صاحب المصنع من جيبه خمسين ليرة على ما أذكرُ وأعطانا إيّاها، ولكم أن تُقدِّروا كم كان إنشاء المعهد الإسلامي العالي بهذه المبالغ البسيطة أمرًا صعبًا لدرجة المستحيل، وأمام هذا الموقف قرَّرْنا نحن والإخوة المعنيِّين بالأَمْرِ في ختام جلسةٍ استشاريّة عقدناها فيما بيننا دعوةَ من يمكن دعوتهم مِنْ ذوي الإمكانيات والمقدرة المادّيّة إلى اجتماع وأن نستَنْهِضَ همَّتَهم قدرَ ما نستطيع، وعلى ما أتذكَّر لم يأتِ إلى الاجتماع من الأشخاص الذين دعوناهم إليه سوى عدد قليلٍ جدًّا ربما يشغل طاولةً واحدةً فحسب، ولقد قمتُ فيهم خطيبًا فتعهَّدَ الحاضرون ممن لبّوا الدعوة بأن يساهموا ماديًّا بمبالغ مختلفة مثل: مائة ألف ليرة، ومائة وخمسين ألف ليرة، وأربعين ألف ليرة، وثلاثين ألف ليرة، إلَّا أن أحد المدعوين قال وكأنه يفسد الأمر: “كل إنسان يعطي بقدر إيمانه بالمسألة، وإنني سأعطي ألفين وخمسمائة ليرة فحسب”، غير أنه شاء الله أن يأتي يوم شجَّعَ الناسُ بعضهم بعضًا على القيام بمثل هذه النوعية من الأعمال الخيريّة في شتى أنحاء الوطن، لدرجة أنهم كانوا إذا لم يُخبَروا بأيّ اجتماع تُرجى فيه مساعداتهم وهمَّتُهم يلومون قائلين: “لماذا لم أُدْعَ أنا إلى هذا الاجتماع؟!”، حتى إنني عندما انزويت بإحدى الغُرَفِ عقب كلمةٍ أَلْقَيتُها في أحدِ المجالِسِ التي عُقِدَت من أجل هذا المقصد عينه دخلَ عليَّ الغرفةَ ضابطُ صَفٍّ متقاعدٌ يحملُ مفاتيح في يده، وقال بتأثرٍ وحرقة: “لقد ساهم الجميع قبل قليل، أما أنا فليس لديَّ ما أقدمه، ولذلك فإنني أحضرت إليكم مفاتيح بيتي”، وبالطبع لم يكن ممكنًا أن أقبلَ عرضًا كهذا، فشكرتُه وردَدْتُ عرضه هذا بأسلوبٍ مناسِب.
وعندما وصلنا إلى أيام أول انفتاح لنا على الخارج في التسعينات من القرن المنصرم كانت هذه الروح قد تكونت في بني جلدتنا، ولذلك لم تكن القضية قضية المعلم والمربي فحسب، وما كان لهذه الفعاليات التربوية التعليميّة أن تتحقَّقَ على المستوى العالمي إلا باجتماع وتوفر العديد من العوامِلِ مثل رضا الوالدين، وملائمة الظروف والأوضاع في الأماكن والبلاد المقصودة، والدعم المادّي من أهل الأناضول الأسخياء لمن سيذهبون إلى هناك، واجتماعُ كلّ هذه العناصر في آنٍ واحدٍ لا يُساوي في ميزان الحسابات إلا واحدًا في المليون، إذن يستحيل أن يعزوَ إنسانٌ إلى نفسه وذكائه وفطنتِهِ وكياستِه وعقلِه الألمعيّ ومنطقه ومحاكمتِه العقليّة مسألةً كهذه تتحقَّق باحتمالٍ يُمَثِّلُ واحدًا في المليون، فإنْ همَّ أن يفعلَ ذلك فقد ارتكبَ ظلمًا كبيرًا وأساءَ الأدب كثيرًا.
صاحبُ الفضلِ هو الله ولا أحدَ سواه
الواقع أنَّ العقيدة والأخلاق الإسلاميّتين قد ركّزتا بحساسيّة شديدة على الإيمان بأنَّ كلَّ شيءٍ في كلِّ الأعمال الجميلة والنجاحات إنما هو من عند الله، وكمثالٍ على ذلك فلقد أقال الفاروقُ عمر رضي الله عنه قائدَ الجيوشِ خالدَ بن الوليدِ بسبب فكرة كهذه؛ رغمَ أنّه كان يتولّى قيادةَ الجيش في معركةٍ غايةٍ في الحساسيّة كموقعة اليرموك؛ إذ إنَّ قوات الأعداء كانت تفوقُ قوَّةَ المسلمين عدَدًا وعدَّةً بحوالي سبعة أو ثمانية أضعاف، إلا أن هذه المعركة كُلِّلت بإذن الله وتوفيقِه بالنصرِ الـمُــؤَزَّرِ للمسلمين، فأنْهَتْ سيادةَ البيزنطيِّين على سوريّة وأضفت عليها السيادة الإسلاميّة، ولقد أبرزَ القائدُ العسكريُّ أبو سليمان خالد بن الوليد دهاءَه العسكريّ آنذاك، فوضعَ إستراتيجيّاتٍ حربيّة في غاية الإحكامِ والروعة، وأبدى من الفتوّة والفروسيّة والشجاعةِ ما حازَ تقديرَ وإعجابَ الجميعِ، وبينما كانت مثل هذه الحرب الضروس دائرة أقالَ سيدنا عمرُ سيدَنا خالدًا رضي الله عنهما من قيادة الجيش، وحضر خالد رضي الله عنه أمام الخليفة وكلُّهُ تواضعٌ وامتثالٌ لأمرِ أميرِ المؤمنين، وهو الذي نزل على هامة الساسانيين والبيزنطيين كالمطرقة فقضى عليهما، وهو من قال عنه سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: “عجزت النساء أن ينسلن مِثْلَ خَالِدٍ!”[5]، وكما قال أحد الغربيين: “إننا نرى القادة من أمثال “هانيبعل” يتسوَّلون على باب خالدٍ”، وهكذا وبالرغم من كونه قامة سامية تحظى بتقدير الجميع فقد صار جنديًّا عاديًّا بعد أن عُزِلَ من منصبِ قيادة الجيش، ولما وصل خالد إلى جوار عمر رضي الله عنهما -فداهما روحي ونفسي- قال له سيدنا عمر: “يا خالد، والله إنك عليَّ لَكريم، وإنك إليَّ لَحبيب”، ثمَّ تمثَّلَ قول الشاعر:
صَنَعْتَ فَلَمْ يَصْنَعْ كَصُنْعِكَ صَانِعٌ … وَمَا يَصْنَعُ الأَقْوَامُ فَاللَّهُ يَصْنَعُ
إن تحقُّق النجاحات الملموسة بلطفِ الله مسببِ الأسباب وإحسانِه سبحانه وتعالى ليست محصورةً بنا ولا حكرًا علينا وحدنا دون غيرِنا.
ثمَّ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى الأَمْصَارِ: “إِنِّي لَمْ أَعْزِلْ خَالِدًا عَنْ سَخْطَةٍ وَلا خِيَانَةٍ، وَلَكِنَّ النَّاسَ فُتِنُوا بِهِ، فَخِفْتُ أَنْ يوكلوا إِلَيْهِ وَيُبْتُلُوا بِهِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الصَّانِعُ، وَأَلا يَكُونُوا بِعَرَضِ فِتْنَةٍ”[6]، وأمام هذا الموقف تَمثّل سيدنا خالدُ بن الوليد رضي الله عنه عظمةً أخرى فوق ما يتَّصِفُ به من عظمةٍ تُحَيِّرُ العقول والألباب؛ فانصاع لأمر أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه الذي كان حتى ذاك اليوم جنديًّا خاضعًا لإمرته هو، وناضل حتى آخر يوم في حياته كجندي وسيفٍ مسلولٍ برّاقٍ من سيوف الجيش الإسلامي.
وخلاصةُ القول: إنّه لا احتماليّة ولا إمكانيّة لتحقيقِ أيِّ نجاحٍ على أرضِ الواقع ما لم تحالِفْه قدرة الله تعالى وعنايته. أجل، إنَّ كلَّ جمال يتحقق لا يكون إلا بإذن الله تعالى وعنايته ورعايته، ولأجل ذلك فإنه لا بدَّ من الإيمان بأن الأنشطة التي تحقَّقَتْ حتى اليوم إنما هي مظهرٌ من مظاهرِ رعايةِ الحقِّ تعالى، وتجلِّيات أخرى متعدّدة الأبعاد من تجليات عنايته ولطفه سبحانه، وفي الوقت نفسه أيضًا يجب أن تثير مثل هذه المظاهر مشاعرنا فتدفعنا إلى شكر الله وحمده، فتتزايد بالشكر كلُّ النِّعَمِ التي تحقَّقَتْ حتى اليوم وتستمرّ، وإلا فإن نَسَبْنَا -معاذ الله- تحقيقَ النجاحاتِ إلى أنفُسِنا يَكِلُنا الله إلى قوَّتِنا وإرادَتِنا الضعيفة، لأنَّنا قد خنَّا هذه الأمانة المباركة التي وصلت إلينا بواسطة أيادٍ مخلصةٍ حقًّا، ذلك أنَّ الحقائق القرآنية يمكن أن تُخيِّمَ على الكون حقًّا عبر ارتباطِنا الدائم بحقيقة التوحيد، وإيمانِنا بأنه يستحيل ولو حتى لورقةِ شجر أن تتحرَّكَ دون أن تلفّها عنايتُه جلَّ وعلا، وعبرَ ديمومةِ التمسُّكِ والارتباطِ بهذا الاعتقاد.
[1] انظر: البخاري، المناقب، 25، 104؛ فضائل الأعمال، 2، مناقب الآثار، 45؛ مسلم، الزهد، 75.
[2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 206/3.
[3] بديع الزمان: السيرة الذاتية، ص 160-161.
[4] بديع الزمان: الكلمات، ص 755؛ الشعاعات، ص 739.
[5] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 359/3.
[6] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 68/4.