سؤال: اعتمادًا على ثراء الماضي المجيد تضعُ أجيال اليوم خططًا ومشاريع للمستقبل المجهول، فما هي المسؤوليات التي يجب عليهم الانتباه إليها حتى يتمكنوا من التحرك بشكل يتناسب مع ظروف عصرهم؛ أي يصبحوا “أبناء الوقت”؟
الجواب: “ابن الوقت”، هو مصطلح يطلقه الصوفية خاصة على أولئك الذين استوعبوا زمانهم جيّدًا، واستطاعوا قراءةَ الأوامر التكوينية بحق، وسبروا أغوار الأشياء والحوادث، فضلًا عن وقوفهم وفهمهم الجيد للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.. وبتعبير آخر: ابن الوقت هو من ينظر إلى الأشياء والحوادث نظرة شمولية، ويدرك جيدًا أبعاد العلاقة فيما بين الثلاثي: “الإنسان والكون والله تعالى”.
وإن من لا يُتقِنُ فهمَ الأوامر التكوينية جيدًا إلى جانب الأوامر التشريعية، ولا يدري شيئًا عن الأحداث والتطورات الواقعة في زمانه، لا يتأتى له فهمُ القرآن الكريم وتفسيرُه وفقًا لظروف عصره، بينما الشخص الذي يفهم عصره، ويدرك جيّدًا أحداث زمانه يمكنه أن يكشف عن تفسيرات تناسب زمانه الذي يعيش فيه، مستفيدًا من النهايات المفتوحة التي سكت عنها القرآن الكريم؛ أي الجوانب الصالحة للاجتهاد والاستنباط، وهذا في الحقيقة من الواجبات المهمة الملقاة على عاتق “أبناء الوقت”.
الذين يبحثون عن حلول لمشكلاتهم عبر اللجوء إلى التطرف والعنف؛ لم يستطيعوا فهمَ حقيقة الإسلام فهمًا صحيحًا، ولم يتمكنوا من قراءة عصرهم قراءة صحيحة، وهم يعطون بأعمالهم الشنيعة هذه صورةً سيئةً عن الإسلام.
وإذا أردنا مزيدًا من التوضيح نقول: إن المعنى الأول الذي يمكن فهمه من مصطلح “ابن الوقت”، هو وقوف المرء على علوم عصره وتقنياته؛ بأن يحصل على خبرات عصره في العلوم التجريبية مثل الفيزياء والكيمياء والأحياء والفلك والرياضيات، ويتوصل إلى ما يتوافق بينها وبين الكلام الإلهي، ويبحرَ -خاصة- في تفسير الآيات الدالة على الحقائق العلمية من خلال الإمكانات التي تتيحها العلوم الحديثة.
أما المعنى الثاني الذي يُفهم من “ابن الوقت”، فهو اطلاعُ المرء على ثقافة عصره وحضارته، وقراءتُه الحوادث الاجتماعية قراءة صحيحة، وتعرفُه على الأيديولوجيات والتيارات المختلفة، وإلمامُه بما يشيع حوله من مفاهيم وأفكار.
فيجب على المسلمين اليوم أن يعملوا على اكتساب خبرات العصر، سواء في العلوم التجريبية أو العلوم الاجتماعية، إلى أن يتبوّؤوا المكانة التي يجب عليهم إحرازها.. وإلا تسلّط عليهم الآخرون، وقيَّدوا أرجلَهم بالسلاسل وأعناقهم بالأغلال، فيُجبَرون على العيش تحت وصايتهم.. فلِزامًا علينا أن نستثمر علوم وتكنولوجيا العصر على أفضل وجه بما يخدم غايتنا المثالية.. وهذا بالطبع ليس هدفًا يتحقّق فجأة من تلقاء نفسه، لكن إذا قرأنا عالم اليوم جيدًا، وتوصلنا إلى النتائج الصحيحة، وقمنا من فورنا بتنشئة الخبراء في مختلف المجالات، وإنشاء المعامل والمختبرات، فستصل المسألة إلى بُعدٍ مختلف تمامًا بعد خمسين عامًا.
عمليات العنف والإرهاب
ولا يمكن لمن يعجز عن قراءة عصره قراءة صحيحة أن يحل مشاكل العصر، بل على العكس، فإن كل محاولة يقوم بها في سبيل الحل ستتسبب في اضطرابات ومشكلات جديدة، بل وربما تُلحِق به ضررًا بالغًا رغم اعتقاده بأنه يخدم الإسلام بفعله هذا.
ومن الضروري أن يكافح الإنسان ويجاهد من أجل دينه ووطنه وبلده ونسله ومستقبله، وإذا تطلَّبَ الأمرُ فإنه يواجه الأعداء من أجل حماية هذه القيم المقدسة والذود عنها، ولا يتردد في التضحية بماله وحياته في هذا السبيل.. ولكنكم الآن في زمن تُصنع فيه الأسلحة القوية المدمرة، فإذا استفززتم الآخرين أو تجاوزْتم الحدود بدعوى السعي لتحقيق العدالة أو لأسباب تافهة واهية، فسوف توقِّعون صحيفةَ إعدامكم بأيديكم.
وإن الذين يمارسون اليوم أعمال العنف والإرهاب، ويحصدون أرواح الأبرياء بالعمليات الانتحارية دون أن يأبهوا بأهليهم وذراريهم، ويعتدون على معابد أصحاب الديانات الأخرى، وينتهكون حرمة مقدساتهم؛ لا يمتّون بصلةٍ إلى القيم الأساسية للإسلام لا من قريب ولا من بعيد.. فكما أن هذه الأعمال تتنافى جذريًّا مع روح الإسلام، كذلك فإنها تقوّض القيم الديمقراطية والمبادئ الإنسانية التي تتصدر الساحة اليوم.. فإذا كان أحد أسباب هذه الاضطرابات عدم فهم الإسلام فهمًا سليمًا؛ فإن السبب الآخر يكمن في العجز عن النظر بشكل شمولي إلى التطورات الجارية في العالم.
أجل، لا مكان للعمليات الإرهابية والعنف لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية المطهرة، وإن من يتورطون في مثل هذه المخالفات والمناقضات يعيشون بمنأى عن الإسلام حتى ولو أتموا تعليمهم الديني أو زعموا أنهم يتبنّوْن قضية ما.. فهذا مخالف للنهج والدرب الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من سادتنا الخلفاء الراشدين الممثلين المخلصين له.. فحتى في الفترات التي شاع فيها الظلم والقمع من بعض الشخصيات أمثال يزيد والحجاج والسفاح؛ إلا أيَّ أحدٍ لم يكن يقرّ بأعمال العنف التي لا تعترف بقاعدة أو قانون ولا تميز بين النساء والصغار والشيوخ.
وبالمثل أيضًا، فهل ذُكر أن أُحرقت أي كنيسة خلال ستة قرون من التاريخ العثماني؟ وهل دُمِّرت المعابد؟ وهل هوجمت القيم التي يقدسها أتباع الديانات الأخرى؟ تذكر الروايات أن السلطان محمدًا الفاتح قد اشترى كنيسة آيا صوفيا من ماله الخاص وحوّلها فيما بعد إلى مسجد، رغم أنه كان يمتلك القوة والسلطة الكبيرة لاغتصابها رغم أنوفهم.. وفي العهود اللاحقة تم تحويل بعض الكنائس التي لم يكن يؤدى بها صلوات إلى مساجد.. لكننا لا نعرف كنيسة تم إحراقها أو تدميرها.. وإن بقاء العديد من الكنائس قائمةً بطقوسها وأجراسها حتى يومنا هذا لهو خيرُ دليل على ذلك.
احترام مقدسات الآخرين
وإن ما وقع بين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه والأساقفة عند فتح بيت المقدس ليُغني اللبيب في هذا المجال:
لما فتح المسلمون “القدس” وطلبوا من الأساقفة مفاتيح المسجد الأقصى، أبَوا أن يسلموها إلا إلى خليفة المسلمين.. فخرج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع خادمه من المدينة على دابة واحدة -خشية الإسراف- يتناوبانها.. فلما اقتربا من المسجد الأقصى جاء دور الخادم في الركوب.. وكانت ملابس سيدنا عمر مرقَّعة وغير مهندمة من أثر السفر الطويل.. فلما رآه الأساقفة، قالوا: “هذا الذي نجد صفاته في كتبنا”، وسلّموه المفاتيح، ولما حانت الصلاة قال للبطريرك: أريد الصلاة، فقال له: “صلّ في موضعك”، فامتنع قائلًا: “لو صليتُ داخل الكنيسة لاتخذها المسلمون بعدي مسجدًا ولقالوا هنا صلى عمر، فتُحرمون من التعبّد في كنيستكم”، رافضًا عرض البطريرك وراح يصلي في موضع خارجها.
إن من لا يُتقِنُ فهمَ الأوامر التكوينية جيدًا إلى جانب الأوامر التشريعية، ولا يدري شيئًا عن الأحداث والتطورات الواقعة في زمانه، لا يتأتى له فهمُ القرآن الكريم وتفسيرُه وفقًا لظروف عصره.
أيُّ فَهمٍ هذا؟! هل يمكن القول: إن البشرية استطاعت -على الأقل- أن تُحافظ على مثل هذا الأفق رغم مرور ألف وأربعمائة عام على هذه الحادثة؟
إن هؤلاء هم الذين فهموا الإسلام حقًّا، وقرؤوا العالم والمجتمعات والتغيرات المجتمعية قراءة سليمة.. وبفضل هذا استطاعوا أن يُحققوا للإنسانية فترةَ سلام حقيقية.
أجل، إن من يلجأ إلى الإرهاب وأعمال العنف لأي مبرر كان، هو على خطإ عظيم.. فالأعمالُ الإرهابية والإجرامية لا يمكن أن تبررَها ادعاءاتُ التنظيمات الإرهابية الراديكالية بالنضالِ من أجل الحرية، ولا أفكارهم باسترداد الحقوق المسلوبة، ولا نواياهم بمعاقبة المجرمين والظالمين على ظلمهم.. فالنضالُ الذي يُشَنُّ بطريق غير شرعي من أجل الحرية، يعني تعدّيًا على الحرية ودحرًا لها.. ولا شك أن الممارسات الوقحة والدنيئة التي تقع باسم إقامة العدل تُعَدُّ تعدّيًا على العدل.. ولا ينبغي أن ننسى أن مثل هذه الأفعال المخالفة للإسلام والقيم الإنسانية والعالمية سوف تستغلها بعض البؤر التي تنضح بالكراهية والعداء.. هذا هو ما يريدونه؛ فالأعمال المتطرفة غير المتزنة تسهِّل عملهم، وتمهد السبيل أمامهم للتدخل والاحتلال.
دوامة العنف والوحشية
من ناحية أخرى، لا ينبغي التغافل عن أن الأعمال القائمة على العنف مثل الهدم والحرق وقتل الأبرياء والإخلال بنظام المجتمع؛ سوف تورّث أجيال المستقبل مشاعر الكراهية والنفور والانتقام.. وإن واجب مسلمي اليوم لا يكمن فقط في نزع فتيل مزيد من النزاعات الجديدة، بل يكمن في دفن الشحناء والبغضاء والأحقاد الموجودة في باطن الأرض، ووضع الصخور الضخمة عليها حتى لا تعود مرة أخرى، فليست هناك طريقة أخرى غير هذه للمّ شمل الإنسانية حول مشاعر الحب، وخلق جوٍّ من السلام العام.
ابن الوقت هو من ينظر إلى الأشياء والحوادث نظرة شمولية، ويدرك جيدًا أبعاد العلاقة فيما بين الثلاثي: “الإنسان والكون والله تعالى”.
إن الذين يبحثون عن حلول لمشكلاتهم عبر اللجوء إلى التطرف والعنف؛ كما لم يستطيعوا -مع الأسف- فهمَ حقيقة الإسلام فهمًا صحيحًا، كذلك لم يتمكنوا من قراءة عصرهم قراءة صحيحة، فهم إنما يعطون بأعمالهم الشنيعة والدنيئة هذه صورةً سيئةً للغاية عن الإسلام، وهذا يؤدي بدوره إلى زيادة مشاعر العداء للإسلام، وتعميق الفكرة السلبية عن المسلمين، وتقوية التصورات والمفاهيم الخاطئة عن العالم الإسلامي.. فالوحشية لا تولِّد إلا وحشية، والعنف لا يولِّد إلا عنفًا.
ويجب أن نعلم جيدًا أن كل عمل يتنافى مع عقلانية القرآن وفقه السيرة سينقلب بالسلب علينا، فإذا أردنا أن نكون “أبناء الوقت” و”أبناء الزمان”، فعلينا بالاتّزان والتحلّي بالصبر الجميل، وأن نتصرّف بحلمٍ وأناة.. وبغضّ النظر عن المشكلات التي تنشأ حديثًا عن المواقف غير المتّزنة؛ فلا ننسَ أن إصلاح وترميمَ الخروق والشقوق التي تسبب فيها بعض المجرمين المحسوبين علينا؛ واجبٌ يقع على كاهلنا جميعًا، وعلينا أن نوضح أينما ذهبْنا ولكل شخص نلتقي به أن الإسلام ليس دين عنف ولا هو بالذي يعطي أي قيمة أو قدرٍ للإرهاب.