يبدو الزمن في الأشهر الثلاثة كأنه يمضي نحو أيام وساعات مباركة مرتقبة… غير أنّ الأيامَ المشؤومة، الحبلى بـ”أيام نحسات”[1]، المواتية للشرِّ لا تزال تلقي بظلالها علينا، وأحيانًا ما تهبّ علينا العواصفُ شديدةً؛ إذ إنّ النفوس المهووسة بالهدم ماضية قُدُمًا في أعمالها الهدّامة، تقدح الشَّرَر في مواقد الفتنة في كل الأنحاء لتقمع أصوات المؤمنين؛ لكننا أعني الغالبية العظمى -أسأل الله أن نكون كذلك- نتحيّن الجمال، ونجري وراءه نبتغيه لنزين به أحلامنا، ونصبح وكأن أبواب قصور السَّعادة المنشودة قد انفرجت عن أعمق بهجة تستثير فرحتنا وسرورنا، ونسمع صريرها، أو نصبح كأننا نسمعه. ورغم ما في الخارج من عواصف ثلجية ورعدية وما نشعر به من حالة روحية تجعلنا وكأننا نطير من حيث نحن إلى الجنان لما نشاهده من عالم أزرق لامع، فإننا نعتقد ولو أحيانا بأننا في نغمات بهجة ومتعة لا تُوصف.
قد يُراد للضوضاء والولولة أن تُثار من حولنا لنتأثر بها فنهتز، لكن في أعماقنا أنوار أفاضها علينا الإيمانُ والثقةُ بالحقّ فلا نهتز، ولا نضطرب لغبارٍ ودُخَانٍ يحيط بنا من كل جانب، ولا نستكين لظلم أو ظالم أو ظلام دَاهِم؛ بل نثق بالله، ونتحلى بالحكمة، ونسعى لنتنسّم الدين وروحه ورضا الحق وقيمنا الثقافية في كل مكان.
وكلُّ يومٍ جديد من الأيام الراهنة وكلّ ما يجدُّ فيه من أوجه العناية -أرواحنا قربان لما وراءها من قدرة الدّيان!- يبدو وكأنه بجماله، ونفاسته وجاذبيته يُنقينا ويطهرنا من ضبابٍ ودخانٍ متراكم من عدة قرون يلفّنا نحن والدنيا بأسرها؛ ينقينا ويسمو بنا جميعا وبكل مؤمن إلى عالمٍ فيه قصور الجنان. إنّنا لا نأبهُ بالأحقاد المسعورة والبغضاء وغليان الغيظ عن أيماننا وشمائلنا، حتى إننا نرى ما يُرعِب الناس جميعًا ويورِث القنوط في القلوب الضعيفة من زوابع وأعاصير وعواصف ثلجية ورعدية عاتية نراها أحداثًا من جملة “الأحوال العادية” العابرة التي تمر من تحت أقدامنا دون أن تمس ولو شعرة منَّا، ونواصل المسير باتجاه أيام مشرقة نتمثّلها في أرواحنا دائمًا ونسعى حثيثًا نحو قمم تتراءى فيها مثاليّتنا السامقة؛ ونوجّه وجوهنا إلى العوالم الروحية والقلبية لأجدادنا.
إن لإيماننا وآمالنا الفضل في اعتقادنا بأننا حتمًا سنُبعَث بهويتنا الأصيلة ذات يوم، ونقف على أقدامنا؛ لذا تركنا نوافذنا مفتوحة دائما نحو وجودٍ جديد، وربطنا قَدَرنا حتى في أقسى العهود وعند مواجهة أنكى الحوادث غدرًا بالتوكل والتسليم، وتفويض الأمر إلى الله، وآمنّا بأن أيام الله الموعودة ستشرق شمسها، وأن يد العناية ستَعْمُر الدارين من أجلنا، وأن أعمالنا في الدنيا ستصل إلى الرياض والبساتبن هناك. ومن النعم العديدة التي أفاضها الله على المؤمنين كألطاف إلهية استنتجنا أن الله تعالى سيوالي نعمه العديدة على خلقه؛ ففرحنا بظلال التوجهات الإلهية؛ فرِحنا حتى لكأننا لم يمرّ بنا بُؤس قطّ؛ زد على ذلك أننا لا نبالغ إن قلنا إننا جميعًا قرأنَا شعرًا أخرويًّا في الطريق الذي سلكناه فخالط حبُّه شغاف قلوبنا جميعًا، وفي مُحيّا الأعمال التي استُعملنا فيها.
نعم فشعورٌ وإدراكٌ كهذا إنما يصدر عن سَعَة العوالم الحسية للبشر؛ بل كلُّ قلبٍ مؤمنٍ يصبح وكأنه يشعر بأن تلك الغاية المثلى العلوية وآثارها العميقة صارت شعرًا رائقًا.
إن الأيام والساعات والدقائق العذبة الفياضة بمشاعر مرهونة بالزمان تَعِدُ الإنسانَ بلحظات سعيدة لا توصف، بل إن كل جزء يمر من ضروب الأزمنة هذه تراه القلوبُ الوفية مُفعمًا مزيَّنًا تشعر الروح فيه بمتعة أعالي الجنة؛ حتى إن القلب الوضّاء الذي يطالع الوجود والحوادث بمثل هذه المتعة يستطيع أن يجعل ما يحوم حوله من ضوضاء صاخبة، وفِعال شديدة الصلف والجلافة لينةً كالحرير، ويمنحها صفاؤه النفسي تمييزًا نورانيًّا؛ فتفيض بالبسمات على كلّ مكانٍ عَبَرَ منه، فتصبح وكأنها لم ترَ فيه شيئًا سلبيًّا ألبتة، وتُلوّح لمن يزمجرون حقدًا وغيظًا وكرهًا بإشارات تهديهم إلى أفق الإنسانية.
حقًّا إننا قد لا نبلغ هذا المستوى في بعض الحالات، أو قد نرى محيطَنا مضبَّبا غائمًا لعدم نضجنا، وقد ينجم عن بعض الأحوال والحوادث كدرٌ واضطراب، لكن لا يُكتب لشيء من ذلك بقاء واستمرار، فلو كمل الإيمان والتسليم والتوكل في القلوب لأدبرت هذه الأشياء كلها كما أقبلت، ولَأكسبتنا روحَ مقاومة جديدة؛ والحقُّ أنَّ أربابَ هذا المستوى يشعرون بحيويةِ الحياةِ ونضارتِها من جديدٍ في كلِّ يوم؛ والحياة مهيّأة للمفاجآت ولما هو معتاد على السواء، فتتولّد البسمات من الدموع، والملذّات من الآلام، والمتع من الهموم والأحزان؛ وعندما يحدث هذا غالبًا ما يُطلق الصيفُ كما الربيع صيحاتِ الانبعاث في أفق المؤمن، ويضفي الخريف والشتاء على الغروب صبغة الشروق ببشرى جديدة من البعث بعد الموت، وتتعاقب المواسم بعضها إثر بعض بألوان من بشائر السعادة، ففي هذا الجو تبدو الأوقات كلها وكأنها تجيش فرحًا وسرورًا.
وفي هذا المناخ ينبلج الفجرُ بنشوة البعث والنشور، ويعلن النهار عن نفسه بلذّةٍ خاصة في كل جانب، ويكشف المساءُ الستارَ عن الماوراء، ويَغشى الليلُ كل شيء بسحرٍ يُطلِق لسان القلب والروح، ويفيض على الساعات والدقائق والثواني نورانيةً وجوًّا سماويًّا يليّن أقسى القلوب ويرققها، كلٌّ حسب استعداده، فكم من أفكار رائعة ينسجون، وكم من أشياء لا يُجهَر بها يُسرّون، وكم من رؤى عميقة هم فيها مستغرقون، وكم من آفاق ماورائية إليها يتجهون، وبينما هم فيها في معارج الماضي السماوية يحلّقون تراهم في أعذب أحلام المستقبل يتجوّلون، ويا لكثرة ما يجنون مِن حدائق وبساتين الآخرة من أفكار لم تطاولها يد.
أجل، إننا بإيماننا وآمالنا العميقة ونظراتنا وتوجهاتنا الواسعة نعمِّق صلتنا بربنا دائمًا، وكثيرًا ما نشعر بأشياء تفوق تصوراتنا، ويوحي الجوُّ الذي نحن فيه بالأجواء الأخروية وكأننا محاطون بالشفقة من كل جانب، ونحسب المقام الذي نحن فيه ممرًا إلى الآخرة، وكأن العناية تحفّ بنا من كلِّ جانب، فيغدو هذا العالم الخاص الذي يتكون وفقًا لعالمنا الداخليّ عالمًا ساحرًا أخَّاذًا، يُشعرنا بنورانية العوالم الأخروية.
فلا يظلم أفقنا كليًّا مطلقًا، حتى ولو أظلم كل ما فيه بظلمات متعاقبة فكثيرًا ما تستنير بصائرنا بأنوار الماورائيات، فلن نعاني الغربة ما وفّينا المقام الذي نحن فيه حقّه، وتوجهنا إلى أفقنا الأزلي، فنحن بفضل الله وعنايته نأوي إلى “ركن شديد”[2] دائمًا، ونتحدّى أعتى الأمواج.
وقد ينجم عن الحوادث الجائرة -التي يبدو أنها تعترضنا- أن يقطع الزمنُ طريقَنا بل ربمّا اهتزت أواصر بعضنا الروحية، لكن الأعاصير التي تهبّ وتلفح وجوهنا تقوّي جهازنا المناعي، وتُدبر كما أقبلت، وتترك لنا هدايا قيمة تُشعرنا بذاتيتنا، وهكذا يزول الغم، وتغدو الأكدار ملذات، ونستبدل حمدَ الله بالصخبِ والضجيج، وكأن الحوادث حولنا بشيرٌ بأمرٍ يسعدنا.
كنا نرى كل شيء ونقيمه هكذا بفضلِ إيماننا وآمالنا وتوجهنا إلى ربنا سبحانه تعالى، وبعد ذلك ثبتْنا حيث نحن؛ على أمل أن نفسّر كلّ شيء على هذا المنوال.
إذا كان الأمر كذلك فهُبي حيث شئتِ أيتها الريح المعاكسة التي تهبّ دائما محملة بالحقد والكره! وقريبًا ستقول لك القدرة القاهرة: حسبكِ أيتها الوقحة، كفّاك ضجيجًا من الآن فصاعدًا.
[1] الأيام النحسات: الأيام المشؤومة الحبلى بالعواصف والأعاصير، وهذا اقتباس من الآية :”فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ” من سورة فصلت.
[2] ركن شديد: حصن شديد، ومكان أمين. اقتباس من الآية:” ﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ [سُورَةُ هُودٍ : 80/11]