سؤال: اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم منهجًا في التبليغ في العهدين المكي والمدني يتغير تبعًا للظروف، فما الرسائل التي يبعث بها هذا المنهج للعهود المتأخرة؟
الجواب: لم ينزل القرآنُ الكريم جملةً واحدة، وإنما نزل منجّمًا خلال مدة تصل إلى ثلاثة وعشرين عامًا، ولقد كان هذا الأمر يحمل أهميةً بالغةً بالنسبة للذين عاشوا عهد الجاهلية أو الذين كانوا حديثي عهدٍ بالإسلام؛ وذلك من أجل تأهيلهم والوصول بهم إلى الكمال رويدًا رويدًا، ولقد رصد القرآن الكريم الوضعَ العام الذي كان عليه المجتمع في تلك الآونة، ووضع أحكامه وفقًا لما تستلزمه الظروف، فلم يُكلّف الله تعالى الناسَ بالفرائض المتعلّقة بالعبادات والمعاملات جملة واحدة، وعلى سبيل المثال فقد تدرّج الأمرُ بالصلاة والزكاة ضمن وتيرة معينة حتى تحقق واكتمل في النهاية بالترويض والتدريب، ونفس الأمر نراه عند النظر إلى بعض الأحكام مثل تحريم الربا والخمرِ، إذ لم يحرمهما الله تعالى مرّةً واحدة، ولكنه تدرَّجَ في تحريمها وأنزلَ آيات تتناول أضرارهما، وتروّض المجتمع وتُهَيِّئُه لِقبول ما يُقضى بشأنهما من أحكام في النهاية.
الآيات المكية والمدنية
وعند النظر إلى الآيات التي نزلت في العهدين المكي والمدني نجد بينهما اختلافات كبيرة، فبالنسبة للعهد المكي يُلاحَظُ فيه أن الناس كانوا حديثي عهد بالإسلام، وأن المسلمين قلة قليلة، ومعظم المخاطبين بالوحي من عبدة الأصنام، وهؤلاء كانوا متمردين متعصبين تعصبًا أعمى لدين آبائهم وأجدادهم، وكأن تقليدهم لآبائهم قد نفذ إلى أرواحهم، ولذا كان القرآن الكريم يلفت الأنظار بالآيات التي نزل بها إلى انحرافاتهم هذه على الدوام، ويؤكد على حقيقة التوحيد وركائز الإيمان.
إن أقحمتم القرآن والسنة في كلامكم وعرضتم الأمر مباشرة على أنه أوامر دينية، فستجدون من مخاطبيكم ردَّ فعلٍ عنيف.
أما في العهد المدني فلقد بدأت تتشكل فيه الجماعة المسلمة رويدًا رويدًا حول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعد عبدة الأوثان فقط هم الذين يقفون ضد المسلمين، فلقد كان هناك اليهود والمنافقون أيضًا، ومن ثم بدأت الآيات الكريمة تتنزل وفقًا لما تتطلّبه تلك الظروف آنذاك.
فالربا على سبيل المثال قد بيَّن القرآن الكريم قطعية حرمته في العام التاسع من الهجرة النبوية، وتوعد آكليه بالعقاب الأليم، يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/275).
أما الآيات التي نزلت قبل ذلك فيما يتعلق بمسألة الربا فكانت تُهيّئ الأذهان، وتنفّر الناس منه شيئًا فشيئًا، وفي النهاية حرّمته بشكل قاطع بالآية السالفة الذكر، ففي بادئ الأمر عقد الحق سبحانه وتعالى مقارنةً بين الربا والزكاة، فقال: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ (سورة الرُّومِ: 30/39)، وقد جاء في الآيات التالية لفتُ الأنظار إلى حرمة الربا في الشرائع السابقة، وتوبيخ اليهود الذين ما زالوا يأكلونه ويعملون به، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/161)، وبعد ذلك حرم القرآن الكريم أخذ الفائدة على رأس المال على اعتبار أنها عادة جاهلية، فقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/130)، وفي النهاية جاء أمر قطعيٌّ بتحريم الربا.. وكذلك موضوع الخمر فقد جاء تحريمه على أربع مراحل.
التدرّج في الدعوة بعد عصر السعادة
فمن غير الممكن بعد أن أتمّ الله دينه وأكمله أن نغضّ الطرف أو نخفي بعض هذه الأحكام، فالتدرج في عرض الأحكام الشرعية وإبرازها بهذا الشكل كان خاصًّا بوقت معين فقط، ولذلك فليس من الصحيح قطعًا بعد أن أكمل الله دينه أن نفكر في الاكتفاء بتبليغ بعض أحكام القرآن فقط، ونعرض عن البعض الآخر.
لسنا نبالغ -في رأيي- إذا قلنا إن الإنسانية التي ابتعدت بشكل كبير عن القيم الدينية تعيش اليوم فترة جاهلية ثانية.
وبيد أن هذه الفلسفة التشريعية التي تقوم على التدرّج تكشف عن حقائق مهمة بالنسبة للمنهج الذي يجب أن يتبعه رجالُ الإرشاد والتبليغ، لا سيما وأنها تدلّهم على ضرورة تقديم الأولويات عند عرض رسالة القرآن على المخاطبين الذين أُبعِدوا عن الدين كلية، وصُرفوا عن منابع ثقافتهم الذاتية ورؤاهم العالمية وكأنهم يعيشون عهدَ الفترة من جديد، وكذلك توضح لهم النقطة التي عليهم البدء بها، ونوعية الطريق الذي يجب عليهم اتباعه فيما بعد، وتعلّمهم أن التغيير ليس بالسهل اليسير، وأن التخلص من بعض العادات يستغرق زمنًا معينًا.
ولسنا نبالغ -في رأيي- إذا قلنا إن الإنسانية التي ابتعدت بشكل كبير عن القيم الدينية تعيش اليوم فترة جاهلية ثانية، فكما نرى في المقابلات الصحفية أو الإعلامية في الشوارع بات عدد كبير من المسلمين اليوم -رغم أنهم يعيشون في دولة مسلمة- لا دراية لهم بأركان الإيمان، ولذا فعلينا أن ندرك أولًا أننا نعيش في أزمنة عصيبة متمردة، ثم نبدأ العمل من حيث بدأ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فمن المعلوم أن أول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لمشركي مكة هو: “قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا“[1]، فلم يوجّه الأنظار حتى إلى نفسه في البداية، لأنه لو فعل ذلك لخامرت البعضَ فكرةُ أنه يريد الزعامة، وربما يسبب توجيه الأنظار إلى نفسه في رد فعل سلبي لدى الناس وفي انفضاضهم من حوله، إلا أنه من غير الممكن لشخصٍ ليس بنبي، ولا يستند إلى قوة إلهية أن يقول مثل هذا الكلام، ولا أن يعطي هذا الضمان القوي، ولا أن يتعهد لأحد بالنجاة. أجل، لا مغزى لكلام إنسانٍ لا يستند إلى ركن شديد؛ ولهذا كان بكلامه هذا يومئ ضمنيًّا إلى أنه قد أتى برسالة من عوالم ما وراء السماوات؛ بمعنى أنه كان يؤكد على نبوته، فلم يلبث العاقلون أن يفهموا بسهولة ويسرٍ ماذا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم؛ وهذا بُعْدٌ آخر من أبعاد فراسته وفطنته النبوية صلوات ربي وسلامه عليه.
ولقد استهل بديع الزمان سعيد النورسي مؤلفاته بالحديث عن الإيمان، وركز على حقائق الإيمان من البداية إلى النهاية، إذ إن الحقائق الإيمانية هي أول ما يخاطب به الذين أُبعِدوا عن قيمهم الذاتية، وهذا لا يعني أن نتوقف عن الحديث عن العبادات والطاعات، ونهمل الحديث عن المسائل المتعلقة بالمعاملات والحياة القلبية والروحية، ولا نتعرض بالكلام عن الذنوب والمحرمات، بل لا بد من تناول هذه الموضوعات مع مراعاة مستوى الأشخاص، المهم هو تحديد ما يُقال أولًا وما يُقال ثانيًا حسب مستوى مخاطبينا، وتعيين ما يلزم عرضه عليهم؟ ومتى؟ وكيف؟ وكما أن تبليغَ كلِّ المسائل الدينية من ضمن المسؤوليات الواقعة على عاتقنا وكذلك فإن تقديمَ المسائل التي لها حقُّ الأولوية مسؤولية أخرى.
الأسلوب المتبع في عرض الحقائق السامية
من جانب آخر فلا يغبْ عن بالنا أن الأسلوب المتبع في عرض الحقائق الدينية له أهمية بالغة، فثمة أناس اليوم قد ابتعدوا عن الإيمان رغم أنهم يدّعون الإسلام، ولا يسمحون لكم بالحديث عن حاناتهم وماخوراتهم ومعابدهم، فعليكم إذًا أن تحدّثوا الناس دون أن تتعرضوا لطواطمهم وأيقوناتهم التي يقدّرونها، لِنفرض أنكم تريدون أن تُبعدوا الناسَ عن الأشياء التي حرمها الإسلام مثل الربا والخمر والقمار والزنا، فإن أقحمتم القرآن والسنة في كلامكم وعرضتم الأمر مباشرة على أنه أوامر دينية، فستجدون من مخاطبيكم ردَّ فعلٍ عنيف، ولكن بدلًا من ذلك يمكنكم الحديث عن مثل هذه المسائل بتوضيح آثارها وتأثيراتها على الصحة والاقتصاد والقيم الاجتماعية؛ بمعنى أن تتحدثوا إليهم بلسان الطبيب الحاذق، وتعرضوا عليهم النتائج التي توصل إليها رجالُ العلم، مستدلين بالإحصائيات المختلفة، وعندها ستقولون ما تريدون دون اعتراض من أحد.
عدم تعبير الإنسان عن تبعيته لهذه الجماعة أو تلك الطريقة لا يُخرجه عن الدين.
فمن يدري كم إنسانًا خسرناه حتى الآن بسبب حِدَّتِنا وغِلظتنا وجهلنا بالأمر وأسلوبنا الخاطئ؟! أحيانًا ما أفكّر في حالتي الجنونية التي كنتُ عليها في العشرينات من عمري، وكيف أنني كنت متمرّدًا متناقضًا مع نفسي، فأوبخ نفسي توبيخًا شديدًا، ولكن ماذا عسانا أن نفعل وقد كنا ضحيةً لانعدام الرائدين والموجّهين في ذلك الوقت، ولم يكن هناك أحد يحدثنا عن هذه الموضوعات، فعلى النقيض تمامًا كان هناك من يلقّنوننا مشاعرَ العداوة إزاء غير المؤمنين والفساق والفجار والظالمين، وكم سمعنا من أقوال سلبية وإهانات دائمة في حق الذين ابتعدوا عن القيم الدينية واقترفوا المحرمات؛ حتى استقرت تلك الأقوال والإهانات في اللاوعي عندنا، وتوطّنت في خلايانا العصبية، وأثرت في مشاعرنا وأفكارنا، وأحيانًا أفكر في تلك الأيام فأحمد الله على أننا لم نعادِ أو نخاصم أو ننازع أشخاصًا يفكرون بشكل مختلف عنا، ويعيشون على نحو آخر، فكان هذا من آثار صيانة الله وحفظه لنا، وإلا لما استطعنا أن ندفع فاتورة تلك الأيام.
ليس من الصحيح قطعًا بعد أن أكمل الله دينه أن نفكر في الاكتفاء بتبليغ بعض أحكام القرآن فقط، ونعرض عن البعض الآخر.
وهنا قد يُطرح سؤال عمّا إذا كنا قد حققنا في الوقت الراهن التفكير السليم فيما نقول أم لا؟ ويا تُرى هل استطعنا أن نتخلص من الأفكار التي تفوح منها رائحة التميز العنصري أم لا؟ وهل نستطيع أن نشرح ما نشرح دون ربطه بفلان أو علان؟
لقد كان رجالُ الخدمة الإيمانية والقرآنية في فترةٍ ما قلة قليلة وضعفاء، لذا قد تُحُدِّث عن فكرة أهمية الأنانية الجماعية والانتماء إلى هذه الجماعة أو تلك الطريقة، وذلك بهدف تشجيعهم؛ إلا أن هذه الأمور ليست موضوعات رئيسة مثل الأسس الإيمانية، فعدم تعبير الإنسان عن تبعيته لهذه الجماعة أو تلك الطريقة لا يُخرجه عن الدين، ولا يبعده عن حلقة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لا ينفصل عن الشيخ الذي يسير في إثره، ربما أخطأنا أخطاء بالغة في هذه الأمور، وكان الأولى أن نفكر بشكل أوسع، ونفتح صدورنا للجميع، وننحّي غِلظتنا جانبًا، ونتحلى بالشفقة والرحمة، ونقوم بخدماتنا في كل مكان، فإن لم يثمر بعضها أثمر البعض الآخر منها بإذن الله سبحانه وتعالى.
[1] مسند الإمام أحمد، 25/404-405.