لقد أصبحت الحداثةُ أمرًا واقعًا لا مفرَّ من تأثيرها، والمسلمون أيضًا لم يستطيعوا النجاة منها، فمن الممكن رؤية هذا التأثير حتى في أنماطِ الفهمِ والتفسير الديني لدى علماء الدين، مما أدى إلى شيءٍ من التغير والتحوّل إلى أن ابتعدنَا عن قيمنا الذاتية.
فهل نستطيع أن نعود مرة أخرى إلى قيمنا الخاصة بأصولها وفروعها أم لا؟! وهل يمكن إرجاع الدين مرة أخرى إلى شكل مناسب لماهيته الحقيقية أم لا؟! لا نستطيع معرفة ذلك.. غير أنه يمكننا القول: إن مسألة جمع الأجزاء المتفرقة والمبعثرة ولملمتها وإعادتها من جديد إلى هويتها الأصلية مرهونة بعملية ترميم وإصلاح تستغرق زمنًا طويلًا للغاية نظرًا لِعظم حجم التخريبات، وقد لا يتيسر هذا الأمر لجيل بكامله؛ لأن للزمن والأوضاع العامة تأثيراتهما وتدخلاتهما المهمة، والجميع يضيف نَفَسَه وصوته ورأيه إلى الأمر، وفي ظل العولمة ليس من السهل على الإطلاق العثور على صوتنا الخاص ونغمتنا الذاتية بين أصوات هذه الجوقة، وهذا النوعُ من التطورات مرتبطٌ بالوقت.
أسلوب التمثيل والتبليغ
إن إدراك أبطال الإصلاح للمشكلة في وضعٍ كهذا ومواصلتهم مساعيهم لإصلاحها بشكل يتوافق مع روح العصر أمرٌ مهمٌّ للغاية، وبدايةً يجب عليهم أن يمثلوا الإسلام بوجهه المبشر والمشجع تمثيلًا كاملًا، وعليهم بعد ذلك أن يُوصِّلوا الحق والحقيقة إلى الصدور المحتاجة المتعطشة إليهما دون أن يُكرهوا أحدًا، ولا أن يُصعِّبوا الدين القائم على التيسير أساسًا، ولا أن يُنفروا الناس، ولا أن يُضحوا بالأصول لصالح المسائل المتعلقة بالفروع، وعليهم أن يقفوا بالدرجة الأولى على المسائل الأساسية المسماة بالضروريات والحاجيات على مستوى الأمة والإنسانية على حد سواءٍ بدءًا من حياتنا العائلية، وألا يقع صراع على الفرعيات والتفاصيل.
إن ما يقع على كاهل المسلم باعتبار الأصل هو أن يُطَبِّقَ بحساسية كاملة وتامة كافة المسائل الخاصة بالدين بدءًا من السنن وصولًا إلى الآداب، غير أنه يجب علينا أن نقدمها ونعرضها على الآخرين بأسلوب تيسيري وتبشيري موافقًا لوصايا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجب ألا نقصر قطعًا في الأصول، وألا نتشدد كثيرًا في المسائل الخاصة بالفروع، وألا ننفر الناس من الدين عبر التمسك بمثل هذه الأشياء، وألا نجعلهم يفرون من حولنا؛ بالعكس يجب أن نكون مبشرين وميسّرين ومُؤلفين ومُحبِّبين.
ومع أن إطلاق صفة “الثقب الأسود” على المسلمين شيءٌ لا يروقني، بيد أنه يمكننا القول: يجب على المسلمين أن يمتلكوا قوة جذب مثل الثقوب السوداء؛ فمن المعلوم أن هذه الثقوب السوداء تجذب إليها كل ما هو قريب منها، وكذلك المؤمن يجب أن يمتلك قوة جذب هكذا من خلال فكره وعالمه الفكري ومحاكمته العقلية ومنطقه وبريقه في التمثيل وعدم ذبوله ولا شحوبه أبدًا، يجب أن يقول من يراه: “قسمًا بالله لا كذب في وجه هذا الإنسان!”.
وقد ذكرت مقولة الأستاذ “نجيب فاضل” في مناسبات عديدة؛ إذ كان يقول: على المؤمن أن يكون مثل قرص سكر مضغوط، فيمنح الحلاوة والعذوبة للبحار والمحيطات إذا ما تركتموه فيها، ويمكننا أيضًا ربط المسألة بقول الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي؛ إذ يقول: “إن كان لي طالب في مكان ما فإنني أعتبر ذلك المكان قد فُتح لصالحي”، ما أعلاها من همة! لقد تحرك طيلة حياته ملتزمًا بكلمته هذه، ودائمًا ما أعلن أن القنوط عقبة في طريق السير إلى الكمال، ودائمًا ما ظلّ يتلوى ويجتهد كي لا يقع الناس في مثل هذا المستنقع.
إن كنتم تعتقدون أن منظومة القيم التي تؤمنون بها وتعيشونها وتمثلونها تعني شيئًا بالنسبة للحياة الدنيا والحياة الآخرة فلا يجدر بكم أن تبخلوا في هذا الشأن، بالعكس يجب عليكم أن تكونوا أسخياء للغاية، وأن تقيموا المعارض في كل مكان، وتقولوا مثلما قال الشيخ “محمد لطفي أفندي”: “أشرَقَتْ شمس التوحيد؛ فالأمر مباح، ولينهل منه مَن ينهل!”، يجب عليكم أن تقدموا مشاعرنا وأفكارنا من خلال الكتب والندوات والمنتديات بما يتوافق وأحوالَ عصرنا وآفاقَ فهم الناس؛ فكل هذه مسؤوليات منوطة بكم.
وفي هذا الصدد يجب أن نعطي حقّ كلّ شيء منحه الله إيانا؛ سواء كان “اختيارًا جزئيًّا”، أو “استطاعة”، أو “رغبة”، أو “تصرفًا في الميل والرغبة” في إطار فهم العلماء، وأن نستخدمه حتى آخر قطرة فيه دون أن نضيع ولو ذرة واحدة منه، فيجب التحرك مثل رجل الأعمال أو المستثمر، أو التاجر الذي يسعى في سبيل إنجاز أعمال عظيمة برأسمال صغير للغاية، وأن ندرس الخطوات التي سنخطوها دراسةً جيدةً، وأن نستخدم إرادتنا بشكل مُثمِر للغاية.
تكوين مناخ السلم في العالم
إلى جانب هذا ثمة مسؤولية أخرى تقع على عاتق من نذروا أنفسهم لخدمة الحق والحقيقة تجاه إنسان عصرنا الذي يهاجم بعضه بعضًا بدافع طمعٍ لا ينتهي، ويركضون ليأكل بعضهم بعضًا، ويقسمون البلاد ويمزقونها بإشعال فتيل الحروب؛ وتكمُن هذه المسؤولية في إقامة جسور لن تنهدم بين الناس، وتأسيس أواصر ترابط قوية للغاية، والمساهمة بهذه الطريقة في تكوُّن جوٍّ من السلم العام في العالم أجمع، فثمة حاجة شديدة إلى إظهار سُبل العيش الإنساني وإلى التذكير مرة أخرى بأن الإنسانية جمعاء من نسل آدم عليه السلام، فإن تعذَّرَت إقامة مثل هذا الجو من السلم في عالم تُثار فيه دائمًا العداوات والصراعات، وتنتج الأسلحة الفتاكة في كل مكان منه؛ فلن يستطيع أحدٌ أن يعيش حياته في أمنٍ وأمانٍ.
وبدلًا من الصراع والتناحر والهدم والتسلّط والسيطرة عليهم يلزم الكشف لهم عن أفق التعاون والتضامن الأخوي، غير أنه يلزم فعل هذا أيضًا وفقًا لظروف وأوضاع عالمنا المعاصر، وإن أفكارًا مثل العثمانية الجديدة لا تعدو أن تكون خيالًا وهوسًا غريبًا ليس إلَّا.. ويقول الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي: “الحال القديم محالٌ؛ إما حالٌ جديد أو اضمحلال”[1]، ومن هذا المنطلق فإنه يجب على الساعين لتوفير السلم والسلام في العالم أجمع أن يتحركوا وفقًا لضروريات العصر الحديث، وأن يسعوا إلى توفير ما يمكن أن يُوفَّقوا إليه من هذا دون انفصال عن الواقع والحقائق.
إن تحقُّقَ ذلك مرهونٌ بالجَودَةِ في نشأةِ الكوادر، وتجهيزِها الكامل ماديًّا ومعنويًّا، ونضوجِها العقلي والفكري والمنطقي، وامتلاكِها مكتسبات تمكّنها من قراءةِ الأوامر التشريعية والتكوينية قراءة صحيحة، وتقييمِها تقييمًا صحيحًا، ووضعِ كل شيء في موضعه المناسب.
يجب على تلك الكوادر أن يتمكنوا من قراءة الأوامر التكوينية وفقًا للرؤية التي قدمها لنا القرآن الكريم، وأن يربطوا كل شيء في الكون بخالقه متحرّرين من الآراء الطبيعية والوضعية والمادية، متمكّنين من قراءة ما تعنيه هذه الأمور بحقّ صانعها وعند خالقها، أي إنه يجب أن تكون عوالمهم العقلية والقلبية منفتحة على ما وراء الطبيعة أيضًا بجانب الطبيعة؛ ذلك لأن قدرتَهم على تحويل الأزمات التي تجري وتأتي من اليمين واليسار إلى حزمٍ وباقات من المعرفة والحكمة وتحقيقَهم ترقيات في مراتب اليقين أمرٌ مرهون بهذا.
الحفاظ على القوام والشد المعنوي
إن الحفاظ على القِوام والشد المعنوي أثناء الركض والسعي في سبيل إعلاء كلمة الله أمرٌ مهمٌّ للغاية، فعلينا أن نظلّ نشيطين دائمًا دون أن ننهزم لسلبيات الأزمان، وألا نذبل أبدًا في مواجهة برد الشتاء الزمهرير ولا حرِّ الصحراء الحارق، وألا نُصاب بالشحوب، وأن نستطيع الحفاظ على رونقنا، وأن ننفع الآخرين دائمًا طيلة الفصول الأربعة كالشجرة التي عبر عنها القرآن الكريم في هذه الآية الكريمة: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ۞ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ (سورة إِبْرَاهِيمَ: 14/24-25).
ويجب توضيح أن حماية المكتسبات أصعب من الحصول عليها في البداية.. يمكنكم أن تمتلكوا مكتسبات حقيقية بفضل جهودكم ومساعيكم، وتحرزون مستويات معينة في نقطة معرفة الله ومحبة الله، غير أنه قد تحُلُّ بكم لاحقًا أشياء تُدهشكم مثل المقام والمنصب، قد تغيرون الطريق والوجهة أمام بعض الضغوط والمظالم التي ستتعرضون لها، وقد تضطرون إلى مجموعة من التنازلات عن بعض قيمكم بسبب شعور الخوف، وقد تسقطون في براثن علل وأسقام كالركون إلى الراحة والدعة وحب الجسد، وقد تتسلل إليكم مشاعر كالحسد والغيرة وعدم قبول الآخر، وربما تتسبب كل هذه الأمور في فقدان القوام والاتزان، ومن هذه الزاوية فإنه من المهم للغاية القدرة على البقاء أحياء وأصحاء كالحبات التي تنمو حتى تصبح سنابل دون أن تنزلق وتحيد ولا أن تسقط وتفسد.
لا نستطيع أن نعلم يقينًا الأمور التي رهن الله تعالى بها تحقُّقَ غايتنا المثالية، وهل هي مرتبطةٌ بامتلاك قوام معين أو الحفاظ على القوام؟! وهل يحقق الله تعالى النتائج التي نرغب فيها عندما نصل إلى هذا القوام؟! أم أن للمشيئة الإلهية مرادات أخرى؟! إننا لا نستطيع معرفة أيٍّ من هذه الأشياء؛ ففي علم الله ثمة وقتٌ مرهون لكل شيء، قد لا يخلق دائمًا النتائج التي نريدها ونرغب فيها، ومهما يكن فإن الواجب الواقع على كاهلنا هو حماية قوامنا وصيانةُ الأمانة وأداءُ المسؤوليات المنوطة بنا أداءً تامًّا دون نقص ولا تقصير؛ لأنه ليس للإنسان إلا ما سعى بحسب ما أفادت الآية الكريمة: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ (سورة النَّجْمِ: 53/39)، ويجب ألا يعنينا ما وراء ذلك من أمور؛ فخلقُ النتيجة من شأن الله تعالى.
[1] بديع الزمان سعيد النورسي: صيقل الإسلام، ص 461.