سؤال: ذُكر في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزِن لموت سعد بن خولة[1] رضي الله عنه في مكة، ودعا الله: “اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ“[2]؛ فما الرسائل المستفادة من هذا الحديث؟
الجواب: بما أن الإطلاق يصرِف اللَّفظَ إلى كماله؛ فإن كلمة “الهجرة” عندما تُطلَقُ يُفهم منها مباشرة هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام من مكة إلى المدينة.. ربما تكون قد حدثت بعد ذلك هجرات أكثر صعوبة ومشقة وخطرًا، إلا أنه ليس فيما بينها ما يرقى إلى هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلًا وكمالًا، وعليه فإن كلًّا منها يُعتبر هجرة ظلية مقارنة بهجرته عليه الصلاة والسلام؛ لأن قيمة الهجرة وقدرها يتناسبان طرديًّا مع قيمة المهاجر والواجبات التي تؤدَّى في المهجَر.
إن النية في غاية الأهمية، فأحيانًا قد يحصل الإنسان على ثواب الهجرة دون أن يهاجر.
وكما هو معلوم فقد كان المهاجر الأعظم صلى الله عليه وسلم في مقدمة أبطال الهجرة.. فبهجرة هؤلاء تحولت المدينة المنورة إلى مركز للحضارة.. وخلال فترة قصيرة شكلوا وحدة سياسية في المدينة، ثم واجهوا الدنيا في إطار معاييرهم وقيمهم الخاصة.. ويجب ألا نخلط تلك المواجهة بما في عصرنا من مواجهات فظة غليظة مليئة بالحقد والعداوة، على العكس إن تلك المواجهة تحققت التزامًا بالمبادئ والنظم الإنسانية، فشكلت المدينة المنورة نقطة الانطلاق عن المركز بالنسبة لرسالة الإسلام المنتشرة في ربوع الدنيا، وبمرور الوقت انتشر هذا الحراك الذي بدأ في صورة حلقات صغيرة ليسعَ العالم بأسره.
إن الحادثة المذكورة في السؤال المطروح وقعت في حجة الوداع، حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيادة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لمرض شديد ألمَّ به أثناء الحج، وقد ورد صحيحًا عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ، كُلُّهُمْ يُحَدِّثُ بالحديث عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى سَعْدٍ يَعُودُهُ بِمَكَّةَ، فَبَكَى، قَالَ: “مَا يُبْكِيكَ؟” فَقَالَ: قَدْ خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْتُ مِنْهَا، كَمَا مَاتَ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا، اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا” ثَلَاثَ مِرَارٍ[3]، وفي رواية أخرى خاف سعد رضي الله عنه من أن يموت بمكة التي هاجر منها وتركها لوجه الله تعالى، فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ سعد: فقال رسول الله: “إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ، إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يُنْفَعَ بِكَ أَقْوَامٌ، وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ“[4]، قَالَ: رَثَى لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ[5].
وبالفعل فقد عاش سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عمرًا مديدًا بعد بشارة النبي صلى الله عليه وسلم له وكان سببًا في فتوحات مهمة، إلى أن توفي في المدينة عام (55 هـ).
قد يكون البقاء في مكان ما لفترة طويلة سببًا في ذبولِ الإنسان وفقدِه لحيويّته ونشاطه، وحينها قد يفقد القدرة على التعبير عن المعنى الواجب التعبير عنه في هذا المكان.
لقد خاف الصحابة من أن يكون الموت في مكة مانعًا لهم من إتمام هجرتهم، وعاشوا حياتهم عازمين على عدم العودة مرة أخرى إلى وطنهم الذي تركوه، بل والأكثر من هذا أيضًا أننا نعرف أن هناك الكثير من الصحابة لم يبقوا حتى في المدينة المنورة التي هاجروا إليها، وقاموا بهجرات جديدة إلى بلاد مختلفة، فقد تركوا مكان هجرتهم الأولى المقدسة، وهاجروا إلى أماكن أخرى رغبة في نشر الإسلام والجهاد في سبيل الله، وهناك فاضت أرواحهم إلى بارئها.
ثواب الهجرة
انطلاقًا من الحديث المذكور أعلاه يمكننا بدايةً أن نقول: إن الهجرة التي تحققت من أجل إعلاء كلمة الله وإعلان الاسم النبوي الجليل في كل الأنحاء لتحمل أهمية عظيمة، فقد فُرضت الهجرة على المسلمين في عصر الرسالة الجليلة، وكان يُنظر إليها وكأنها ضرورة من ضرورات الإيمان.. وعلى الرغم من أن الهجرة خرجت عن كونها فرض عين في العصور اللاحقة إلا أنه يمكن القول إنها حافظت على فرضيتها كفرض كفاية؛ ذلك أنه يلزم في كل زمان أن تقومَ زمرةٌ واحدة على الأقل بترك ديارها ووطنها وتهاجر منه كي تبلّغ الإسلام الدين المبين وتمثّله.. ولو أن المسلمين استطاعوا أن يُنظِّموا الهجرة إلى كلّ أرجاء الدنيا حتى اليوم لأصبحوا وسيلة لأن يتعرف الكثير من الناس بعالمنا الثقافي.
لهذا السبب فإن السائرين على الدرب النبوي خاصة ينبغي لهم أن يكونوا جاهزين للهجرة دائمًا، إننا لا نستطيع أن نُسيء الظن بأحد، ولا نستطيع أن نقول: “لماذا لا يُهاجر فلانٌ، لماذا يقف حيث هو؟”، لكن موقف القرآن الكريم والسنة النبوية فيما يتعلق بهذه المسألة واضحٌ وصريحٌ.
إن كل مكان في العالم يشبه بالنسبة لنا أرضًا خصبة صالحة لنثر البذور، لذا ينبغي لنا أن نفعل ما نستطيع ونبحث عن الأماكن المناسبة التي يمكننا أن ننثر فيها الحبوب التي بين أيدينا، علينا أن نُعلي همتنا دائمًا وأن نفكر باستمرار “تُرى هل بقي مكان لم ننثر فيه البذور؟!” علينا أن ننثر البذور حتى في القطبين الجليديين من أجل تحقيق بشارة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ“[6]، فعلينا أن نصلَ بهذه البذور حتى إلى المناطق غير المأهولة بالبشر، فربما تستفيد منها البطاريق والأسماك، ربما لا نعيش لنرى البذور وهي تشق الأرض، وربما نراها وقد تبرعمت ولا ندرك ثمارها، كل ذلك ليس مهمًّا، المهمُّ هو أداؤُنا واجبنا.
الأصل في الهجرة هو السفر مع عقد النية على عدم العودة مرة أخرى.
وفي الآية الكريمة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/218) قد قُدمت الهجرة على الجهاد في سبيل الله (بإزالة الحواجز التي بين الناس وبين الله، وأن تلتقي القلوب بالله تعالى).. ولذلك فإن قيمة الهجرة التي تتم في سبيل الله، سواء أكانت في داخل الوطن أو خارجه، عظيمة عند الله.
إن الهجرة تحفّز الإنسان على الخدمة، ويوجد فيها جانبٌ مُلزم للإنسان عمليًّا، ودائمًا ما يقول المهاجر في نفسه: “لم آتِ إلى هنا عبثًا، لدي غاية مثالية، وقد جئت إلى هنا كي أحققها”، ويركز جهده في الخدمات التي يلزم القيام بها، فإن جاء معلِّمًا سعى إلى أداء مهنته على أفضل وجه، وإن جاء رجلَ أعمال اجتهد في أداء الخدمات المتوقعة منه، والخلاصة أنه يُخضع حياته كلها لمسألة الهجرة، ويصبح مُشجِّعًا لما يجب فعله كمهاجر.
ليس من السهل على المرء أن يترك وطنه ودياره ووالده ووالدته ويهاجر ويقمع شعور الصلة وأحاسيسه ومشاعر الحنين إلى الوطن، بيد أنه يجب ألا ننسى أن ثواب الأعمال الثقيلة على النفس سيكون كبيرًا بقدر مشقتها.. إن السفر إلى مدن مختلفة لأغراض سياحية لفترة قصيرة يمتع النفس. ولكن الهجرة من أجل إعلاء كلمة الله تعالى مع عقد العزم على عدم العودة مرة أخرى صعبٌ للغاية.. إن قدرة الإنسان على ترك عائلته ووطنه والأماكن التي اعتاد عليها دون الاهتمام بمشاعر الشوق التي سيشعر بها، بالرغم مما في نفسه من حب وارتباط بها، أمرٌ يتطلب تضحية كبيرة.. وهكذا فإن المكسب الأخروي لمن يُرغِمُ نفسه -دون رغبةٍ منها- على تقديم مثل هذا النوع من التضحية؛ سيكون كبيرًا ومختلفًا تمامًا.
هل يمكن ترك ديار الهجرة؟
الأصل في الهجرة هو السفر مع عقد النية على عدم العودة مرة أخرى، وعدم النظر للمسألة كما يُنظر إليها بالمفهوم الإداري في تركيا على أنها أداء مأمورية في منطقة نائية كشرق تركيا مثلًا، وكذلك من الواجب عدم النظر إلى بلاد الهجرة على أنها “منطقة انقطاع وحرمان”، وإحصاء الأيام لترك تلك الديار، فهذا يُعَد إساءة لروح ومعنى الهجرة، فالذين يعيشون بخيال العودة لوطنهم الأم أو الذهاب لبلاد أجمل، لن يتكيفوا مع المكان المتواجدين فيه، ولن يستطيعوا أداء وظائفهم حقّها، وذلك لأن الإنسان الذي يهاجر بمثل هذه المشاعر، لن يحب المكان الذي هاجر إليه ولن يقبله، وبالتالي لن يعود بالنفع على هذا المكان.
أما الذي يحملون أفكارًا من قبيل: “لننتهِ من هذا الفصل بأسرع وقت، ولنذهب بعده إلى المكان الذي نفضل أن نذهب إليه”، فهؤلاء بهذه الملاحظة يكونون قد لوّثوا نياتهم، وحري بالإنسان المهاجر أن يمحوَ من ذهنه منذ البداية مثل هذه الأفكار والملاحظات، ولا يربط المسألة بفترة زمنية محددة.
إن الأمر كما ذكرنا، لكن لكل زمن شروطه الخاصة به ويمكن اتخاذ القرار وفقًا لما تحتاجه الخدمة، فقرارُ البقاء في المكان أو الهجرة مرة أخرى لمكان آخر يجب أن يُتَّخَذَ وفقًا لذلك، فالصحابةُ الكرام رضوان الله عليهم الذين هاجروا إلى المدينة قد انتقل بعضهم إلى ديار أخرى وفقًا لما فرضَتْهُ الظروف حينها، وقد هاجروا لأماكن كثيرة لتحقيق غاية مثلى، هاجر بعضهم إلى الشام والبعض الآخر إلى بغداد والبعض الآخر إلى بلاد مختلفة. وبعد أن قاموا بأداء وظيفتهم في ديار الهجرة تلك تركوها فاتحين أشرعة الهجرة إلى بلاد أخرى.
فمَنْ هاجر إلى بلد ما واكتسب منها خبرات وتجارب قد يتوجّب عليه أن يحمل هذه الخبرات والتجارب لأماكن أخرى، فلذلك على المهاجر أن يضمر في نيته البقاء في ديار الهجرة من جهة، ومن الجهة الأخرى أن يكون دائمًا على أهبة الاستعداد للهجرة لمكان جديد، فإن تحرَّك المرء بنية رضا الله تعالى، وبهدف تحقيق خدمات نافعة، فلا ضير حينها أن يهاجر من مهجرِهِ إلى مهجَرٍ آخر.
على الرغم من أن الهجرة خرجت عن كونها فرض عين في العصور اللاحقة إلا أنه يمكن القول إنها حافظت على فرضيتها كفرض كفاية.
ولو أن البعض قالوا له: “إنك في هذه الديار منذ أعوام وأعوام ولقد قدمت هنا خدمات جليلة، ولو أنك عدت إلى بلدك الأم لقدمت هناك خدمات أكبر، وستعود بالنفع الأكبر عليها”، وقام حينها باستشارة من يثق في رأيهم ويعتمد عليهم وأشاروا عليه بنفس الأمر فحينها لن تصبح هجرته ناقصة، وسينال ثواب الهجرة كاملًا غير منقوصٍ بإذن الله.. ولقد استخلفَ الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة في مكة بعد الفتح.. وإن لم يفعل ذلك من أجل إدارة وتنظيم حياة المسلمين الجدد؛ لعادت الفوضى إلى مكة واختل النظام مجددًا.
وفي الواقع فالأساس هو النية، ولقد افتتح الإمام البخاري كتابَه الجامع الصحيح بحديث “إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ“، ولذلك فعند الهجرة لا بد أن تكون النية هي نَيْلُ رضا الله تعالى، ومن بعدها إعلاء كلمة الله، وتتويج ذلك بالمجاهدة والتمثيل، وقد يتوجب على الإنسان حتى وإن خرج بنية البقاء في ديار الهجرة وخدمة أبناء تلك الديار، أن يتحرّك وفقًا لتغير الأوضاع والظروف، وقد يستنتجُ مع رفاقِه في طريق الخدمة أنّ انتقاله لمكان هجرة جديد سيكون ذا فائدة أعظم، وعليه حينها أن يكون مثل سادتنا الصحابة رضي الله عنهم بأن يتوجه أينما كانت خدمته أعلى وأكبر نفعًا، فيحمل قيمه وينقلها إلى القلوب المحرومة، ويضاعف هجرته.
لقد خاف الصحابة من أن يكون الموت في مكة مانعًا لهم من إتمام هجرتهم، وعاشوا حياتهم عازمين على عدم العودة مرة أخرى إلى وطنهم الذي تركوه.
نعم، إن النية في غاية الأهمية، فأحيانًا قد يحصل الإنسان على ثواب الهجرة دون أن يهاجر، على سبيل المثال قد يرغب الإنسان من صميم قلبه أن يهاجر لينقل ما حصَّله من خبرات وتجارب إلى أماكن أخرى بقصد الإفادة، ولكن الأشخاص الذين يعملون معه قد يرون أنه لو هاجر فلن يستطيع أحد أن يملأ مكانه، وبالتالي سيترك فراغًا كبيرًا، وأن وجودَه في مكانه الحالي هو أمرٌ ضروري، ويحاولون إقناعه بالبقاء.. ففي هذا الوضع نستطيع أن نقول أن هذا الإنسان وبمشيئة الله سينال ثواب نيته، فكما أن الهجرة ضرورية عندما تقتضي الحاجة إليها، فإن البقاء أيضًا ضروري بنفس القدر عندما تقتضي الحاجة إليه.. وحيثما ظلت نية الهجرة حاضرة في قلب الإنسان فإنه بإذن الله تعالى سينال ثواب الهجرة.
ومن جهة أخرى، قد يكون البقاء في مكان ما لفترة طويلة سببًا في ذبولِ الإنسان وفقدِه لحيويّته ونشاطه، وحينها قد يفقد القدرة على التعبير عن المعنى الواجب التعبير عنه في هذا المكان.. وقد يتسبب هذا القصور في مجموعة مختلفة من المشكلات، ولذلك في مثل هذه الحالة يكون من الأفضل عودة الشخص إلى موطنه الأم أو الانتقال إلى مكان جديد أو نطاق عمل مختلف داخل ساحة الخدمة.
ولو أنني كنت شخصًا يؤخذ بملاحظاته وفي يده الإمكانيات، لما كنت سأترك الأفراد في أماكنهم لفترات طويلة، ولكنت غيرت أماكن الجميع بعد فترة محددة، ولكنت حاولت تطوير النظام ووضعت المعايير، ووفقًا لها يتمّ تقييم أداء الأشخاص، ولو أنني رأيتُ شخصًا يفقد حيويته ونشاطه لكنت مباشرة وجَّهْتُهُ إلى عملٍ آخر يكون أفيد فيه.
قيمة الهجرة وقدرها يتناسبان طرديًّا مع قيمة المهاجر والواجبات التي تؤدَّى في المهجَر.
وإن كان الأمر لا ينطبق على الجميع ولكن أغلب البشر الذين يبقون في نفس المكان لفترات طويلة، يفقدون عشقهم ونشاطهم، وتتكون لديهم حالة من الأنس والألفة، وقد يتعثرون في بعض الملذات الدنيوية، بل إن حالهم يماثل الماء الراكد الآسن، ويصبح وجهه قديمًا في نظر الآخرين، وبسبب الاعتياد أكثر من اللازم مع من حوله فقد يؤدي هذا لبعض إخفاقات فاضحة ويفقد على إثرها قيمته لديهم، وقد يظهرون له سأمهم منه، فلا يستطيع تقديم أنشطة وفاعليات جادة، ولذلك فإذا أراد الإنسان تجديد عشقه ونشاطه للعمل، وحتى لا يكرّر أخطاءه فعليه أن يحمل تجاربه وينتقل إلى مكان جديد، وهذا يُعَدُّ تعبيرًا عن المعقولية في الخدمة.
وعلى كل شخص ألا يعتقد ويرى نفسه إذا ذهب إلى مكان ما أنه حجرُ أساس لا يمكن المساس فيه أو العيش بدونه، بل على الجميع أن ينظروا إلى الأماكن المتواجدين فيها على أنهم أمناء عليها، وأن يركزوا جهدهم في الخدمات التي يجب تقديمها لهذا المكان، وإن بدا مكان جديد للخدمة فعليه أن ينهض وينطلق ليداوم خدمته هناك، ولأن إنسان الخدمة لا يتقاعد فهو حتى نهاية حياته ينتقل مسارعًا من مكان إلى مكان ومن مهجرٍ إلى مهجَر، ومودِعًا ما اكتسبه من تجارب وخبرات لدى الأجيال اللاحقة.
والأمر المهم هو تجهيز الإمكانات التي تتيح للأشخاص فرصة استخدام إرادتهم إلى أقصى حدودها، وإظهار جهدٍ وجدٍّ لتأمين استخدام قابلياتهم واستعداداتهم أفضل استخدام وأنفعه، وتُعَدّ هذه هي أهم وصفةٍ لمواجهة الذبول والركود.
[1] سعد بن خولة (ت: 7 هـ): صحابي جليل من السابقين إلى الإسلام، هاجر إلى الحبشة ثم إلى يثرب، وشهد غزوات بدر وأحد والخندق وصلح الحديبية مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم عاد إلى مكة، فمات بها قبل الفتح سنة 7 هـ، وقد أسى النبيُّ وحزنَ على وفاته لما زار سعد بن أبي وقاص في مرضه الذي أصابه عام الفتح حيث قال: “اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ“. (صحيح مسلم، الهبات، 8)
[2] صحيح البخاري، الجنائز، 35؛ صحيح مسلم، الهبات، 5. (متفق عليه)
[3] صحيح مسلم، الهبات، 8.
[4] يقصد بقوله: “لكن البائس سعد بن خولة” البائس هو الذي عليه أثر البؤس وهو الفقر والقلة، و”رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن توفي بمكة”؛ قال العلماء: هذا من كلام الراوي وليس هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل انتهى كلامه صلى الله عليه وسلم بقوله “لكن البائس سعد بن خولة“، فقال الرواة تفسيرًا لمعنى هذا الكلام إنه يرثيه النبي صلى الله عليه وسلم ويتوجع له ويرق عليه لكونه مات بمكة، وقيل سببُ بؤسه سقوطُ هجرته لرجوعه عنها مختارًا وموته بها، وقيل: سببُ بؤسهِ موتُه بمكة على أي حال كان وإن لم يكن باختياره لما فاته من الأجر والثواب الكامل بالموت في دار هجرته والغربة عن وطنه الذي هجره لله تعالى. (شرح صحيح مسلم: محمد فؤاد عبد الباقي، الهبات، 5)
[5] صحيح مسلم، الهبات، 5.
[6] مسند الإمام أحمد، 28/155.