يقول القدماء: “بقدر الكد تُكتسب المعالي”؛ أي إنّ جميع النجاحات -المادية والمعنوية-تكون متناسبةً مع المشقات المبذولة في سبيلها. فمن يدري مقدار الألم والمعاناة التي تتحملها البَذرة تحت التربة حتى إبراز رأسها كنبتةٍ فوق التراب، إذ تنشق وتتحمل آلام اختراق التربة وتستعدّ لاستقبال أشعّة الشمس وتتهيّأ لها، فكلّ هذه الجهود والآلام هي آلام الولادة والنضال في سبيل الوجود والانبعاث، لذا فهي مهمّة جدًّا.
كلّما انهمرت علينا نعم الله تعالى وأفضاله زادَ ثِقَلُ مهمّتنا واشتدّت الامتحانات، وعلينا أن ندرك تمامًا أن هذه المرتبة العالية التي خصّنا بها الله تعالى بكرمه لا تعود لفضيلةٍ أو قابليّةٍ شخصية فينا أبدًا، وإنما يجب أن ننظر إليها كَلُطْفٍ إلهيّ ونقيّمها على ذلك، إن وصور الجمال والخير تمرّ بنا دائمًا، وعندما تمرّ تقوم بطَرْقِ أبوابنا؛ لأننا في حاجةٍ إليها أكثر من الآخرين ولا نستطيع أن نكون مظهرًا لهذا الجمال بأشخاصنا، وكلّ هذه الجماليات تنعكس علينا كانعكاس أشعّة الشمس على قطرات المياه.
علينا ألا ننسى أن هذا اللطف والكرم الإلهي الذي ينهمر من فوق رؤوسنا وينفذ إلى أعماق كياننا إنما يأتي باسم الجماعة، إذ لا يستطيع أحد أن يدّعي أنه صاحبُ الفضل في هذا.
حبُّ المال من صور الامتحان:
الثالثة: حبُّ المال والمنفعة المادية من صور الامتحان في حياة الجماعة، والنـزاعاتُ والخصومات الموجودة بين السياسيين تنبع من هذه الناحية ومن هذه الأفكار السلبية والمخرّبة التي تستند إلى النـزاع حول المنافع المادية؛ ذلك لأن هناك أعينًا كثيرة ترنو إلى مناصب معينة، وهناك أصحاب أهواء وشهوات لا يعرفون الشبع يلهثون وراء منافعهم ومصالحهم الشخصية؛ الأمر الذي يؤدّي إلى أن تنقلبَ الوحدة إلى اختلاف، والاتحاد والتعاون إلى تفرقة وخصام، بينما يجب أن تؤدَّى جميع الأعمال وجميع التضحيات لوجه الله تعالى دون انتظار جزاءٍ أو شكورٍ من أحد، ولو تم هذا لاجتاز الكثيرون امتحان المنافع المادّية المؤدّية إلى الشقاق والخصام.
لقد أجبنا بهذا الجواب لأن السؤال كان يدور حول الامتحان الـمَنُوطِ بالوحدة ورصّ الصفوف؛ لأنه لا يمكن تحديد صور وأشكال الامتحانات التي يتعرّض لها الإنسان، ولا يمكن تعدادها واحدة واحدة.
هل تعرّض الصحابة إلى امتحان بعضهم ببعض؟:
يسألُ السائلُ عما إذا تعرّض الصحابة الكرام إلى امتحان بعضهم ببعض، لذا فلنقِفْ هنا قليلًا ونقول:
ما كان من الممكن إعفاءُ الصحابة من مثل هذا الامتحان؛ ذلك لأنهم نالوا أعلى المراتب في الحياة المعنوية فكان لزامًا عليهم أن يتعرّضوا إلى أصعب امتحان، ولاسيما أن الاجتهادات التي ظهرت فيما بعد حول إدارة الدولة قد صعّبت من تلك الامتحانات وجعلتها أشدّ وطأة. ولكن مع ثقل الامتحان لم ينحرف صحابيّ عن التماس طريق الحق، وعندما تبين لبعضهم أنهم لم يكونوا على الحقّ أغمدوا سيوفهم في ظرفٍ لم يكن من السهل إغمادها.
ليس من الممكن إعفاءُ الصحابة من مثل امتحان بعضهم ببعض؛ ذلك لأنهم نالوا أعلى المراتب المعنوية فكان لزامًا عليهم التعرّض إلى أصعب امتحان.
لقد أدركت أمُّنا عائشة رضي الله عنها خطأها عندما وقفت أمام الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتذكّرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار بشكلٍ ضمنيٍّ إلى هذا الأمر قبل انتقاله، فركبت دابّتها ورجعت وهي نادمة أشدّ الندم.[1]
كان الزبير بن العوام رضي الله عنه رجلًا شجاعًا وشهمًا، فلقد أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ، وَهَاجَرَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ عَمُّهُ يُعَلِّقُهُ فِي حَصِيرٍ، وَيُدَخِّنُ عَلَيهِ بِالنَّارِ، وَيَقُولُ: ارْجِعْ إِلَى الْكُفْرِ، فَيَقُولُ الزُّبَيْرُ: لَا أَكْفُرُ أَبَدًا”[2]، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: “إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيرُ بْنُ العَوَّامِ”[3]، ملفتًا الأنظارَ إلى شجاعتِه.
—————–
المصدر: محمد فتح الله كولن:”الاستقامة في العمل والدعوة”، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 215-217.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.
[1] انظر: صحيح ابن حبان، 15/126.
[2] الطبراني: المعجم الكبير، 1/122؛ الحاكم: المستدرك، 3/406.
[3] صحيح البخاري، الجهاد والسير،41.