الجهاد هو محاولة الإنسان للوصول إلى حقيقة ذاته، باستغلال قوته، وإرهاق نفسه، وتحمّل كل المشاق التي تعوق جريان الحياة، وهذا هو الجهاد الأكبر، أما عملية إيصال الآخرين للتكامل مع ذواتهم فهو الجهاد الأصغر. ولما أفلَ النبي صلى الله عليه وسلم عائدًا منتصِرًا من إحدى معارِكِه قال مخاطبًا صحابته: “قَدِمْتُمْ خَيْرَ مَقْدَمٍ، وَقَدِمْتُمْ مِنَ الْجِهَادِ الأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الأَكْبَرِ”، قَالُوا: وَمَا الْجِهَادُ الأَكْبَرُ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: “مُجَاهَدَةُ الْعَبْدِ هَوَاهُ”[1].
وهذا القول يعبّر عن وجهين مختلفين لحقيقة واحدة، فكلاهما فيه تزكية للبشرية ومحاولة للوصول بها إلى الكيفية التي يبتغيها ربنا تبارك وتعالى، وعلى ذلك فالجهاد بنوعيه الأصغر والأكبر يعبّر عن وجهين مختلفين لحقيقة واحدة.
أوَليس وصول البشرية إلى تلك الماهية هو الهدف المنشود من إرسال الرسل عليهم السلام؟! كما قال ربنا جلّ وعلا:﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ (البَقَرَةِ: 2/151).
وظيفة الرسل:
لقد أُرسل الرسل عليهم السلام لرفع الغشاوة عن أعين الناس، وإعانتهم على قراءة آيات الله تعالى، وعند تَـحَقُّقِ تمامِ ذلك تتقوّض جميع العراقيل والعقبات في قلوب الناس وأفئدتهم، وتتغيّر النظرة برمّتها إلى الحوادث والأشياء، وتكتسب الحياة التي صمّ الناس فيها وعموا قيمةً ومعنًى بفضل النور الذي جاء به هؤلاء الأنبياء، أجل، إن قراءة الآيات التكوينية وفهمها لا يتأتى إلا بهؤلاء الرسل.
فالنبي هو من يعمل على تزكية الناس وإيصالهم إلى ذواتهم؛ لأن الناس بحاجة إلى معالجةٍ خاصّةٍ كالمعادن، فلا بدَّ من إذابتهم في بوتقة معيّنة؛ حتى يحصلوا على الهوية المطلوبة بما يطرحونه من نفايات عالقة بهم وأشياء غير نافعة لهم. أما الهوية المطلوبة فلا جرم أنها الهوية التي يرتضيها الحقّ جل وعلا، ولا يتحقّق الوصول إليها إلا بإرشاد الرسل، فمن المتعذّر مطلقًا أن نصير كالفضّة الخالصة أو الذهب الخالص إلا بالدخول في منجم الإذابة والاتصال بالله.
وتعليم النبي للكتاب والحكمة، فلو كان المقصود بالكتاب هنا القرآن فهذا يعني أن الحكمة غير القرآن؛ لأنه لا يجوز أن نكرّرَ نسبةَ الشيء إلى نفسه، ومن ثم نفهم أن الحكمة هي السنة المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم.
سيظلّ النبي يعلمنا ما لم نكن نعلمه حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فهذا الخطاب ليس حِكرًا على إنسان عصر النبوة، بل هناك كثير من الأمور سيظل الناس يتعلمونها من الأنبياء حتى يوم القيامة.
إننا تعلمنا من رسولنا عليه الصلاة والسلام سُبُلَ تطهير القلب، حتى نشأ بين تلامذته صلى الله عليه وسلم من هم أمثال سيدنا علي كرم الله وجهه وتُعزى إليه مقولة: “لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقينًا”، ومن حدسوا الأسرار في السماء وهم على الأرض كالشيخ الكيلاني، والآلاف ومئات الآلاف من أمثال الفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وبشر الحافي… كل هؤلاء كانوا ثمرات مباركة لهذه التربية العظيمة، فلو كان هناك نبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لحلّق كلُّ واحدٍ منهم في سماء النبوة كما حدث في عهد أنبياء بني إسرائيل.
وكثيرةٌ هي الأمور التي علّمها النبي صلى الله عليه وسلم للبشرية وسيظلّ يعلّمها، لقد تعلّمت البشرية منه كثيرًا من المسائل المعجِزَةِ للعقول حتى الآن، فلن يُكتب للبشرية النجاة في المستقبل من ظلمات الجهل إلا بفضل النور الذي جاء به، وعندها ستتقدّم البشرية بين هالات من الضياء حتى تحيط بكل الأنوار، وسترتقي بالمعارج النورانية إلى ذرى العلم والفن والتقنية.
إن النهجَ النبويَّ هو النهجُ الذي وَرَّثه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لرجال الدعوة من بعده، وعهد إليهم بتزكية الناس، والوصول بهم إلى درجات الكمال، حتى يبلغوا درجة يرتضيها خالقهم سبحانه وتعالى، ولا يتأتى تحقيق هذه النتيجة إلا بالجهاد؛ يعني إزالة الموانعِ والحواجز بين العباد وربّهم.
————————
المصدر: محمد فتح الله كولن:”الاستقامة في العمل والدعوة”، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 181-183.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.
[1] البيهقي: الزهد الكبير، 1/165.