لو كان لدى أبي بكر أو عمر رضي الله عنهما أيُّ ميلٍ إلى الدنيا لكان في مقدورهما أن يُصبحا فيما بعد من أغنى أغنياء العالم. ولكن لم يشأْ أيٌّ منهما الانحرافَ عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كانوا يحصلون عليه بِيَدٍ، كانوا ينفقونه بالأخرى. وهكذا كان ينفد ما يأتي إليهم. وهناك من الصحابة الأغنياء مَنْ لا يستطيعُ إحصاء ثروته كعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وكأنس بن مالك رضي الله عنه الذي شبّ في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ونال بركةَ دعائه، ففي رواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن أم سليم رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، أَنَسٌ خَادِمُكَ، ادْعُ اللَّهَ لَهُ، قَالَ: “اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ، وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيتَهُ”[1]. وكان أنس رضي الله عنه في العاشرة من عمره عندما دخل في شرفِ خدمة النبي صلى الله عليه وسلم،وعندما أغمض صلى الله عليه وسلم عينيه عن هذه الدنيا كان في العشرين من عمره، وأصبح من الأغنياء في عهد الخلفاء، وقال مرةً: لقد رأيت أبناء أحفادي، وربما مَن دفنتهم بيدي من أحفادي يتجاوز المائة، أما بالنسبة لثروتي فلا أعرف قدرها، ولا أعلم عدد أغنامي من كثرتها.
لم يشأْ الصحابة الكرام الانحرافَ عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كانوا يحصلون عليه بِيَدٍ، كانوا ينفقونه بالأخرى.
زرعوا.. فحصدوا:
لقد أعطوا وضحّوا بأرواحهم وأموالهم عندما حان حين العطاء والتضحية، ثم عندما آن الأوان حصلوا على الثمرات الدنيوية والأخروية، فكما تُنقَل البُذور الموجودة في المخزن وتُبذر جميعها في الأرض في موسم الربيع، وعندما يحين الأوان تقوم الأرض بإرجاعها سنابل عديدة، كذلك يجب على الإنسان أن يتحوّل بكلّ كيانه إلى بذرة ويلقي بنفسه إلى التراب، عند ذلك سنرى أن كل بذرة ستنشقّ عن سبع أو عشر سنابل، في كل سنبلةٍ مائةُ حبّة كما جاء في القرآن الكريم، عندئذ سيذهل الجميع من عظيم فضل الله، حتى الزرّاع سيصيبهم الانبهار والدهشة من هذا، بينما يصاب البعض بالغيظ من امتلاء المخازن بالبركات، وهنا يظهر سرُّ الآية الكريمة ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ (سُورَةُ الفَتْحِ: 48/29).
لو كان لدى أبي بكر أو عمر رضي الله عنهما أيُّ ميلٍ إلى الدنيا لكان في مقدورهما أن يُصبحا فيما بعد من أغنى أغنياء العالم.
جودوا بكل أنواع البذل والعطاء:
عليكم أن تتخيّلوا أنفسكم في موسم الربيع الصالحِ للبذار، ثمّ تجودوا بكل أنواع البذل والعطاء، لا تتوقّفوا أو تقولوا: “يكفي هذا الإنفاق “، إلّا إذا وقف أمامكم من تثقون به وقال لكم: “كلا، يجب ألا تبالغوا مثل هذه المبالغة في الإنفاق”؛ فلو لم نحسب حساب الإنفاق في المستقبل لقلنا لكم “أنفقوا اليوم كل ما تستطيعون إنفاقه”، وإذا أتينا إلى سؤالٍ مفترَضٍ يقول: “حسنًا! وماذا عن المستقبل؟”قلنا: إن الغدَ في ضمانةِ الله تعالى… فالمناسب لنا هو التحلّي بالروح الخليليّة؛ ونفعل كما فعل إبراهيم الخليل عليه السلام عندما ترك زوجته وابنه في وادٍ غير ذي زرعٍ ثمّ قَفَلَ راجعًا دون أن ينظر خلفَه، وما سنّه لنا سلفُنا الصالحُ وعلى رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فلقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في حقّه: “لَو كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصَاحِبِي”[2].
هكذا أحرز أبو بكر رضي الله عنه هذه المرتبة الرفيعة، فعندما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه قائلًا: “مَا أَبْقَيتَ لِأَهْلِكَ؟”قَالَ: أَبْقَيتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ”[3]، هذا هو الجوابُ اللائقُ بمن حازَ مرتبةَ الصديقية. والذي نفهمه من الآية الكريمة ﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ (سُورَةُ التَّوْبِةِ: 9/41) هو وجوب تقييم الزمان جيداُ، وثمة كثيرين اليوم قد أحسنوا استثمار هذا المعنى السامي.
—————————
المصدر: محمد فتح الله كولن:”الاستقامة في العمل والدعوة”، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 138-140.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.
[1] صحيح البخاري، الدعوات، 46؛ صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 141.
[2] صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 1.
[3] سنن أبي داود، الزكاة،41؛ سنن الترمذي، المناقب، 44.