إن اعتبار الجهاد المادّيّ هو كلّ شيءٍ، وغضّ الطرف عن الجهاد الأكبر أو هدم أهمّ ركنٍ في الدين؛ أي الجهاد الأكبر، وتحويله إلى رهبانيّة ليس إلا خيانة لروح الدين، وما حياة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم بخافيةٍ عنا.
لقد اتّحد في شخصِ النبيّ ﷺ أعلى وأرقى نقطةٍ من كِلا الجهادين فكان ﷺ أنموذجًا ومثالًا للشجاعة.
فيَروي سيدنا عليّ الكرّارُ رضي الله عنه وهو البطل الشجاع باعتراف الجميع ويقول: “كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ، وَلَقِيَ الْقَومُ الْقَومَ، اتَّقَينَا بِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى مِنَ القَومِ مِنْهُ”[1]. وفي غزوة حنين “..طَفِقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَرْكُض بَغلَتَه قِبَلَ الكُفّار قال عبّاسٌ وأنا آخذٌ بلجام بَغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أَكُفُّها إرادةَ أنْ لا تُسْرِعَ… وأبو سفيانَ بنُ الحارثِ بنِ عبدِ المطّلب يقُودُ به فنـزل فاستَنْصر وقال: “أنا النّبيُّ لا كذِبْ * أنا ابنُ عبدِ الـمُطَّلب”.
قال الراوي: “كُنَّا وَاللهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ، يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ”[2].
شجاعته ﷺ وعبادته
الرسول صلى الله عليه وسلم أنموذج كامل للشجاعة والبطولة في ميدان المعركة، أما في ميدان العبادة فكان في منتهى العبودية حتى يُسمع لصدره أزيزٌ كأزيز المِرْجَلِ من البكاء، ويدفع مَن حوله إلى رقّة القلب كلّما سكب الدموع، وكان يصوم أيّامًا حتى يُقال إنه لا يُفطر، بل كان يصوم حتى صوم الوصال، وكان يقيم الليل كلَّه أحيانًا حتى تتورّم قدماه، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ نَبِيَّ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ الله، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: “أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا!”[3].
تأمّلوا إنسانًا يعتكِفُ متخفّيًا في غار “ثور”من دون مبالاة لحيّات أو هوام، وعندما يبلغ المشركون بابَ الغار يجزع سيدنا أبو بكر رضي الله عنه خشيةَ أن يطّلع عليهم أحد، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم في منتهى الاطمئنان والسكينة: “مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا!”[4].
كان ﷺ السابق الأول دومًا في الجهاد المادّيّ والمعنوي.
إنسان القلب الحيّ والضمير اليقِظ
هذا الإنسان الذي لا يعرف معنى الخَوف أبدًا عندما يسمع القرآن يرقّ قلبه حتى تنهمر الدموع منه وتكاد تتقطّع أنفاسه، فعَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “اِقْرَأْ عَلَيَّ”، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، آقْرَأُ عَلَيكَ، وَعَلَيكَ أُنْزِلَ، قَالَ: “نَعَمْ”فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ (سُورَةُ النِّسَاءِ: 4/41)، قَالَ: “حَسْبُكَ الآنَ”فَالْتَفَتُّ إِلَيهِ، فَإِذَا عَينَاهُ تَذْرِفَانِ”[5].
إنه إنسان القلب الحيّ والضمير اليقِظ، وهو السابق الأول دومًا في الجهاد المادّيّ والمعنوي، فحينما يحثّ أمته على الاستغفار يكون في المقدمة: “وَالله إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيهِ فِي اليَومِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً”[6].
—————–
المصدر: محمد فتح الله كولن:”الاستقامة في العمل والدعوة، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 197-199.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.
[1] مسند الإمام أحمد، 2/453.
[2] صحيح مسلم، الجهاد والسير، 76-79.
[3] صحيح البخاري، تفسير القرآن، سورة الفتح، 2.
[4] صحيح البخاري، المناقب، 30؛ صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 1.
[5] صحيح البخاري، فضائل القرآن، 33؛ صحيح مسلم، صلاة المسافرين، 247-248.
[6] صحيح البخاري، الدعوات، 3.