Reader Mode

العبوديّة هي إصرارٌ ووقوفٌ وانتظارٌ أمام الباب، والتزاِمَ البابَ حتى فتحه دون مُغادرة وإن أخذ هذا الانتظار من العبد عمرَه كلّه، وأن يحتفظ بنفس شوق اليوم الأول دون أن يدعَ للعادة والألفة فرصةً لتقليل شوقه، ودون تحوّل عباداته إلى حركاتٍ رياضيّةٍ لا روحَ فيها، هذه هي العبودية الحقّة… أن تتسابق مع الزمن وأنت محمّلٌ بالشوق وبالخوف وبالرجاء كما كنتَ في اليوم الأول: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (سُورَةُ الْحَدِيدِ: 57/16).

إذا لم يفارقْ النومُ أعينَنا جرّاءَ انسحاقِنَا تحتَ صولة الكفرِ وغَلَبَةِ الباطل على الحقّ ولا نحسّ بهمٍّ عميقٍ؛ فليس هناك من يجب إلقاء اللوم عليه إلا أنفسنا.

كان الصحابة رضوان الله عليهم أول مَن خوطِبوا بهذه الآية، فإذا وضَعْنا في اعتبارنا الجوَّ الذي كانوا يعيشون فيه وكان يساعدهم على تجديد إيمانهم وكأن مائدة معنويّةً تنـزل عليهم من السماء كلّ يوم، علاوة على الشدّ المعنوي والتغيُّر الذي يُحدثه في أرواحهم؛ لأدركْنا وجهَ مخاطبةِ الآية لنا بهذا الخطاب؛ لأن الظروف التي يمكن أن تسوقهم إلى الألفة لم تكن موجودةً آنذاك. لقد عاشوا الإسلام بنضارته وأصالته.

 التحذير من قسوة القلب

كانت الآية السابقة تُحذِّر الصحابة من قسوة القلب وتدعوهم إلى جَيَشان القلب وسَكْبِ العبرات، فإن لم تكن مشاعِرُنا الداخلية وهمومنا ودموعُنا على المستوى الذي يتطلّبه القرآن منّا وعلى الكيفية التي يرجوها فعلينا أن نلوم أنفُسَنا. وإن لم نسارع للجهاد من أجل إعلاء الدين الإسلامي المبين أو لا نستطيع ذلك، وإذا لم يفارقْ النومُ أعينَنا جرّاءَ انسحاقِنَا تحتَ صولة الكفرِ وغَلَبَةِ الباطل على الحقّ ولا نحسّ بهمٍّ عميقٍ؛ فليس هناك من يجب إلقاء اللوم عليه إلا أنفسنا.

لقد أخصبَ الصحابةُ تربةَ العهود والأجيال اللاحقة، فنشأ الآلاف من أحباء الله تعالى وأوليائه، ولم يترك أحد منهم هذا الباب، ومن هؤلاء إبراهيم بن أدهم.

 نحن عبيدُ هذا الباب… باب خدمة دين الله

عبيدٌ لا نريد الانعتاقَ من رِقِّ هذه العبودية، ولا يمكن أن نفارق هذا الباب أبدًا، ثم أيوجد هناك بابٌ آخر نهرع إليه سوى هذا الباب؟! سنظل مرابطين على عتبة هذا الباب بكلّ عناد وإصرار ولن نولّي وجهنا عنه أبدًا.

هناك قصة رمزية تقول: إن أحد أولياء الله تعالى عبدَ ربَّه سنوات طوالًا، وتربّى على يديه كثير من المريدين، وكلّ مريد منهم يترقّى حتى يشاهدَ اللوح المحفوظ ويقرأَهُ، والغريب أن كلّ مريد كان يقرأ في اللوح المحفوظ أن شيخَه شقيٌّ، فبدأ المريدون ينفضّون عنه ويتركونه ولم يبق إلا مريد واحد، فسأله شيخه “لماذا تركَ أصدقاؤك مجلسَنا ولم يعودوا يأتون إلينا؟”فأجابه المريد على خجلٍ: “يا سيدي! لقد قرؤوا في اللوح المحفوظ أنك شقيٌّ، لذا تركوا حلقة الدراسة”، فأجابه الشيخ وعلى شفتيه ابتسامة مُرّة: “يا بني، لقد رأيتُ هذا قبل أن يروه بأربعين عامًا، ولكن قل لي يا بني أهناك باب آخر أستطيع أن أطرقه؟”وعلى أثر كلام الشيخ هذا اهتزت السماء وتغيّر اللوح المحفوظ، وكُتب فيه من السعداء.

 العبودية الحقّة… أن تسابق الزمن، وتقف ببابه تعالي، وأنت محمّلٌ بالشوق وبالخوف وبالرجاء كما كنتَ في اليوم الأول.

ولقد أخصبَ الصحابةُ تربةَ العهود والأجيال اللاحقة، فنشأ الآلاف من أحباء الله تعالى وأوليائه، ولم يترك أحد منهم هذا الباب، ومن هؤلاء إبراهيم بن أدهم، إذ يقول:

إلهي عبدك العاصي أتاك

مقرًّا بالذنوب وقد دعاك

فإن تغفر فأنت أهلٌ لذاك

وإن تطرد فمن يرحم سواك.

 الحذر.. الحذر من الرياء

كانت الخشية من الرياء أكثر ما يخشاه كبار المؤمنين، ويختلف مفهومهم للرياء عن مفهومنا كثيرًا، ومع ذلك كانت هذه الخشية لديهم، وكانت هناك طرق للتخلّص منه، أوّلها العلم بأن الله تعالى مطلع على كلّ أفعالنا، وعلى كلّ ما يدورُ بخلدنا أو تُخفيه صدورُنا، ثُمّ عدمُ نسيان هذا أو الغفلة عنه، وأن نكيّف سلوكنا على ضوئه، وألا نبتعد عن الأذكار والأوراد ومطالعة الكتب التي تربي الخشية في قلوبنا، وننظر إليها كأحد الحلول التي توصلنا إلى الهدف المنشود.

—————–

المصدر: محمد فتح الله كولن، الاستقامة في العمل والدعوة، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، صـ153-155.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

 

 

 

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts