مما يستدعي التأمّل طويلًا أمثال القرآن في تصوير الحدائق والجنان، ففيها برهان جليّ على إعجاز هذا الكتاب.
في القرآن تصويراتٌ وافرة دقيقة للحدائق والجنان أنّى يومئذ لأهل الجزيرة العربية المقفرة مشاهدةُ مثلها؟ وأنّى تُسنَد تلك المناظر لمن وُلِد وعاش وترعرع فيها حتى توفّي؛ أعني به سيد السادات ﷺ! إن وجودَ هذه التصاوير في القرآن ليدلّ دلالة واضحة على أنه كلامُ المتعالي سبحانه وتعالى الذي خلق السماوات والأرض والحدائقَ والجنان وأقامها على هذا النحو، فهذه النقطة من الأهمية بمكانٍ، وهذا وجهٌ له قدْرُه في إدراك إعجاز التصوير القرآني.
خلق الله الإنسان فأكرمه بنعمٍ لا تحصى، ثم عدّدها له مفصّلة في كتابه، وساق نظره ليدركها ويَشعرَ بها، فكأنه يقول: مَن لا تفيض مشاعره وأحاسيسه بين يدي هذه النعم أتراه يدرك أنه إنسان؟!
وتنم قوة البيان في التصوير القرآني عن إعجاز بديع، منها:
يقول الله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ﴾ (سورة عَبَسَ: 80/25-32).
هل يدرك الإنسان إنسانيته؟
خلق الله الإنسان فأكرمه بنعمٍ لا تحصى، ثم عدّدها له مفصّلة في كتابه، وساق نظره ليدركها ويَشعرَ بها، فكأنه تعالى يقول: مَن لا تفيض مشاعره وأحاسيسه بين يدي هذه النعم أتراه يدرك أنه إنسان؟!
﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ هل يُعقل إسناد الإطعام والرزق إلى الأسباب أو الطبيعة العمياء؟ ﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا﴾ تُرى، ماذا لو لم ينـزل المطر إلى الأرض ولو سنةً واحدة؟! وقال تعالى: “صَبَبْنَا” لا “أنزلنا” أو “أمطرنا” لِيذكِّر بعظم نعمته، فكأنه يقول: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا﴾ فتفكّروا لو لم ينزل المطر سنة واحدة، أو توارت السحبُ، أو تبخّرت مياه البحار ولم تعد إلى الأرض، فلم يجد الإنسانُ قطرةَ ماءٍ تخرج من الأرض أو تنزل إليها.. ألن تغدو أطراف الأرض كلها صحراء قاحلة، فالأنسب هنا ذكر “الماء المصبوب صبًّا” لا القَطْر، فجاء القرآن يقول: ﴿صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا﴾.
هل لمن يتقلّبُ في وديان مكة أن يدرك هذه الصور البديعة، أو لابن الجزيرة العريبة -وجلُّ غِلالها التمر والبطيخ والخيار- أن يعيَ ويصوِّر هذه الأمور تصويرًا رائقًا كما جاء في القرآن؟!
﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ﴾ أي شققنا الطبقة الترابية -وهي صلبة- ببراعم لطيفة رقيقة “شَقًّا”، فتشقّقت الأرض شقوقًا كثيرة، وفي تلك البراعم مِن الرقة ما لو داعبَتها الأنامل لانثنت لكنها بقدرة القدير شقت التراب المتحجر.
﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا* وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ (سورة عَبَسَ: 80/27-31).
فيشير عز وجل بقوله: “حَبًّا” إلى مطعم الحيوانات والطيور والدجاج من حبوب وبذور، وأدرج فيها مطعم الإنسان ومشربه، فسيقَتْ متشابكة؛ فاشتمل قوله تعالى: ﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا﴾ على العنب مأكل الإنسان والقضب مأكل الحيوان.
﴿وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا﴾ أي خلقنا لكم أشجارًا تسيرون في ظلالها أيامًا، وحدائق وجنانًا تَعانقت أغصانُها، فإذا طوفّتم في رُباها وسهولها فستشاهدون حدائق النخيل والعنب والزيتون وسترون الأشجار قد اصطفّت: الصنوبر مع الصنوبر، والدلب مع الدلب، والحُور مع الحُور، وهي تتمايل وكأنها أهلُ الذِّكْر.
“وَفَاكِهَةً” كثيرة. خصّ بعضها بالذِّكْر ثم أطلق قوله: “وَفَاكِهَةً” أي ما هو كائن منها وما سيكون.
في القرآن تصويراتٌ وافرة دقيقة للحدائق والجنان أنّى يومئذ لأهل الجزيرة العربية المقفرة مشاهدةُ مثلها؟
“وَأَبًّا” منهم من فسر الأبَّ بالمرعى أو الكلأ، وهذا ليس قطعيًّا، فلعله -والله أعلم بمراده- يعمّ مطعم الحيوان الطبيعي والمصنوع منه، والمتولّد منه كالذي يُنثَر على الأرض من أسمدة صناعية، يُروَى أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قرأ على المنبر: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾، فلما أتى على هذه الآية: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ قال: قد عرفنا الفاكهة، فما الأبُّ؟ ثم رفض عصا كانت في يده، فقال لعمرُك يا ابن الخطاب: إن هذا لهو التكلف يا عمر! فما عليك ألَّا تدري ما الأبّ؟ اتبِعوا ما بُيِّن لكم من هذا الكتاب واعملوا به، وما لم تعرفوه فَكِلُوه إلى عالمه.
وكلُّ ذلك ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ﴾ أي إنها نعمة مِنَّا لكم ولأنعامكم، فبهذه النعم التي أعطيناكموها قِوامُكم وقوام بَهائمكم، وبِها تدوم حياتكم، ولولاها لخمدت جذوة حياتكم وانطفأت، وغابت عن الوجود.
فهل لمن يتقلّبُ في وديان مكة أن يدرك هذه الصور البديعة، أو لابن الجزيرة العريبة -وجلُّ غِلالها التمر والبطيخ والخيار- أن يعيَ ويصوِّر هذه الأمور تصويرًا رائقًا كما جاء في القرآن؟!
وأنَّى له ذلك؟ فالقرآن له وحده هذا المستوى من هذه القوة التصويرية الجذابة البديعة الفريدة، فلا تصوير يدانيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: محمد فتح الله كولن، البيان الخالد لسان الغيب في عالم الشهادة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، صـ97/ 98/ 99.
ملحوظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.