إن علم النفس علم يدَّعي التعرف على العالم الداخلي للإنسان وتحليلَه من خلال النظر إلى التصرفات الخارجية، وكان هذا العلم يسمَّى في تاريخنا “علم الروح”، وكان هذا العلم في تلك المراحل يبحث في معظمه عن لدنّيات الإنسان وعالمه الداخلي وجوانبه الملكوتية، وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين كان يُسمّى: “علم النفس”، وفي السنوات الأخيرة سُمّي في بلادنا: “البسيكولوجيا (Psychology)”، وأخيرًا أُطلِق عليه اسم “البسيكولوجيا الحديث”.
القرآن أكبر نعمة من الله وإحسان وهدية إلى هذا الإنسان الذي وَجد نفسَه في زاوية نائية من الكون وحيدًا فريدًا.
وأريد أن أقولَ مقدمًا: كل هذه المصطلحات المتعددة من “علم النفس” أو “علم الروح”، وما يستعمله الغربيون من تعبير “بسيكولوجي/سيكولوجي” وغيرها لا تكفي للتعبير عن ما يرد في القرآن من “الحديث عن لدنيات الإنسان وتشريح جانبه الروحي”.
أجل، إن علم النفس رغم تطوُّر آليّات عمله بأنظمة عديدة وبحوث منهجية، لم يستطع أن ينفذ إلى أعماق الإنسان على مستوى القرآن، ولم يستطع أن يكتشفه ويعبر عنه على الوجه اللائق، فالخطى التي خَطاها علم النفس في هذا المجال تبقى ضئيلة جدًّا مقارنةً بما قدمه القرآن، وما قدمه علم النفس لا طعم ولا لون له إذا قارناه بما أتى به القرآن.
إن الله عز وجل جعل في القرآن شفرات الإنسان، فإذا حُلَّت هذه الشفرات وفُكَّت رموزُها فسيُفهم كل شيء.
ولم يتيسّر لغير القرآن أن يَتناول لدنياتِ الإنسان بشكلٍ متكامل، وأن يحلله ويدققه بشكل يشمل قلبه وسرّه ومشاعره وكذا لطائفه وأحاسيسه التي لم تنكشف إلى الآن، فالقرآن يتناول الإنسان بكل أعماقه الداخلية، ويتعقّبه خطوة فخطوة بكل مشاعره الظاهرة والباطنة، وأعتقد أن نفوذ القرآن إلى ضمير الإنسان، واكتشافه للطائفه، ونظرته إلى كلّ أحواله بنظرة فاحصة، تكفي دليلًا على أنه معجزُ البيان.
وكل من يستمع إلى القرآن، ويتلمّس عن كثبٍ ما فيه من التناسب بين اللفظ والمعنى، سيطلع فيه على حالته الروحية، بل إنه سيجد فيه شرحًا وبيانًا لأحواله اللدنية التي كان يصعب عليه فهمها بنفسه من غير القرآن، وهذا الأمر منوطٌ بنفوذ الإنسان بكل مشاعره إلى روح القرآن وولوجه عالم القرآن. أجل، إنه لا يمكن ولوج القرآن إلا بالقرآن وبالاعتصام به، وإذا تسنى للإنسان أن يدخل مرة واحدة من خلال المنافذ التي فتحت أمامه وتوصل إلى طاولة التشريح القرآني، فإنه سيشاهد ذاته في هيئة مختلفة جدًّا بروحه ومشاعره ووجدانه. أجل، إن علاقة القرآن بالإنسان في هذا المستوى إنما هي في مستوى عال من التداخل والوثوق.
يبدو أنه ليس من السهل الميسور لمن لم يتوجّه إلى القرآن بكل فؤاده أن يفهمه ويجد فيه ذاته ويفهمها.
حتى إن الإنسان لو لم يجد ذاته في آية من الآيات، فإنه سيكاد يرى في آية أخرى أن كلمات القرآن تحيط به، وتداعب فؤاده، وتتحكّم في نبضاته، ولكن يبدو أنه ليس من السهل الميسور لمن لم يتوجّه إلى القرآن بكل فؤاده أن يفهمه ويجد فيه ذاته ويفهمها. أجل، إن الله عز وجل جعل في القرآن شفرات الإنسان، فإذا حُلَّت هذه الشفرات وفُكَّت رموزُها فسيُفهم كل شيء، فالقرآن أكبر نعمة من الله وإحسان وهدية إلى هذا الإنسان الذي وَجد نفسَه في زاوية نائية من الكون وحيدًا فريدًا، فبقدر تأسيسه صداقة مع القرآن سيعرف ذاته، ويلوذ بخالقه، ويتخلص من كل أنواع الوحدة.
أعتقد أن نفوذ القرآن إلى ضمير الإنسان، واكتشافه للطائفه، ونظرته إلى كلّ أحواله بنظرة فاحصة، تكفي دليلًا على أنه معجزُ البيان.
ولا يدرك الإنسان ماهية القرآن إلا إذا دخل في عالمه؛ فكأن القرآن مجموعة إحداثيات تربط بين الإنسان والكون، بل إن القرآن كما يلفت نظر الإنسان إلى الدنيا فكذلك يوجه نظره إلى الآخرة، فيجمع بين جوانبه التي تتعرض للفناء والتي تتمتع بالبقاء فيؤلّف بينها، ويوضح تركيبته اللدنية كما يُشَرِّح تركيبته المادية.. فمن الممكن أن نجد في القرآن ما يحققه الإنسان من التطور والرقي أو ما يتعرض له من الانحطاط، وكذلك يمكننا أن نرى فيه ما يمر به الإنسان من المراتب والمقامات حينما يتحول من شكل إلى شكل أو حال إلى حال أو طور إلى طور، كما يمكننا التعرف من خلاله على ما يحمله الإنسان من مشاعر وعواطف جياشة وسَير روحي.
إن علم النفس رغم تطوُّر آليّات عمله بأنظمة عديدة وبحوث منهجية، لم يستطع أن ينفذ إلى أعماق الإنسان على مستوى القرآن، ولم يستطع أن يكتشفه ويعبر عنه على الوجه اللائق.
فعلم النفس الحديث ما زال بعيدًا عن معرفة الإنسان بهذا الشكل، وأود أن أؤكد بقوّةٍ أنه ليس هناك علاقة بين القرآن وبين المناهج التجريبية التي طورها علم النفس. أجل، إنه لن يكون هناك ارتباط لا من قريب ولا من بعيد بين الآيات القرآنية وبين تلك المبادئ التي يفسَّر بها الإنسان والتي تم التوصل إليها من خلال التجارب التي أجريت على الحيوانات، ولن يفهم علم النفس مغزى الآيات القرآنية إلا إذا توصل إلى أقصى ما تصل إليه يده وحصل على أدق ما يكتشفه من المعلومات.
الخطى التي خَطاها علم النفس تبقى ضئيلة جدًّا مقارنةً بما قدمه القرآن، وما قدمه علم النفس لا طعم ولا لون له إذا قارناه بما أتى به القرآن.
ومن الأهمية بمكان أن نعلم أن الآيات التي سنركز عليها ونُورِدُ منها أمثلةً، ليس من الممكن شرحُها بموازين العلم المسمى “علم النفس” الذي ألبسوه شيئًا من الروعة الخيالية فسموه فيما بعد “سيكولوجي”، فعندما نشرح ونحلل الأمثلة من القرآن لن ننحو منحى أفكار شخصيّة حتى نضفي على الموضوع الصبغةَ العلمية، وذلك من مقتضى توقيرنا للقرآن الكريم؛ فإنه إذا لم يتحقّق تفسير القرآن وشرحه بطريقة موافقة لأدائه وأسلوبه الفطري، فسيؤدي ذلك إلى خللٍ في المقصود، فمن أكبر التجنّي على القرآن أن نستخدم في بيانه بعض الموازين والمبادئ التي لم تصل بعدُ إلى مستوى القطعية؛ فالذي ينظر إلى القرآن عليه أن يزيل ما بعينيه من الرَّمَص المصطنع؛ حتى لا ينكسر طول الموجة الشعاعية بما فيه من نصاعة وضياء وثراء، ويبصِر ما فيه من البهاء والوضوح بكلّ عمقٍ واتّساع.
المصدر: فتح الله كولن، البيان الخالد لسان الغيب في عالم الشهادة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2017م، طـ1، صـ246/ 247/ 248/ 249.