Reader Mode

سؤال: لا أصوم ولا أقوم، ولا تدمع عيناي ولا يجيش قلبي، بل يسيطر حبُّ الظهور والرياء على خدمتي للدعوة… ومع ذلك فلا أستطيع ترك هذا الباب… فماذا أفعل؟

الجواب: هذه هي صرخةُ قلب متألِّـــمٍ يرى نفسه مُحَاطًا بالفراغ من جميع الجوانب، هذا ليس سؤالًا؛ بل هو واقعٌ نعيشه جميعًا، كان أحد العظماء كثيرًا ما يكرر الأبيات التالية:

ليس لي عِلْم ولا عمل نافع،

ولا قدرةَ لي على الطاعة والبر، ولا دافع

غريقٌ في العصيان… كثيرُ الآثام والشرور…

فماذا تكون -يا تُرى- حالي يوم الحشر والنشور؟!

 إنّ البكاء والأنين عمليةُ تفريغٍ للمخلصين والصادقين الذين تلتهب أفئدتهم وتكتوي صدورهم على الدوام.

 الدموع شاهدٍ على رقّة الطبع وجمالِ الروح

كأن أفئدتهم تحتوي على جمر من نار جهنم تكوي صدورهم فلا تجد مشاعرهم هذه طريقًا للخروج إلا بالدموع، لذا نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيم توازنًا بين جهنم وبين الدموع: “مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يَخْرُجُ مِنْ عَينَيهِ دُمُوعٌ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَ رَأْسِ الذُّبَابِ، مِنْ خَشْيَةِ الله، ثُمَّ تُصِيبُ شَيئًا مِنْ حُرِّ وَجْهِهِ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ”[1].

أجل! فما يستطيع إطفاءَ نار جهنم شيءٌ سوى الدموع، وفي حديث آخر يعبّر عن هذا التوازن بقوله: “عَينَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَينٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ الله، وَعَينٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ الله”[2]، وينظر الرسول صلى الله عليه وسلم بالنظرة نفسها إلى مَن يجاهد في سبيل الله، وإلى مَن يجاهد نفسَهُ فيذرِف الدموعَ.

 عندما ينظر المؤمنون من عدسة الإيمان فكأنهم يرون الجنة وحورها، والأكثر من ذلك أنهم يَرَون جمالَ الحقّ سبحانه وتعالى.

فالدموع أعدلُ شاهدٍ على رقّة الطبع وجمالِ الروح، وكلُّ قطرةٍ منها تعادلُ مياهَ الكوثر في الجنة، وجفافُ الدموع حالةٌ من البؤس التي يُرثى لها؛ ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله تعالى من العين التي لا تدمع كاستعاذتِه من الشيطان الرجيم، فيا ليت باستطاعة كلّ مؤمن مراقبة نفسه والاعتراف بهذه الحقيقة الـمُـرّة قائلًا: ليس لي علم ولا عمل.. ولا قدرةَ لي على الطاعة والبرّ.. ولا دمعة في عيني.. ولا طاقة في قلبي.. ولا نور في إرادتي…

الافتقار إلي الله تعالي

هل يستطيعُ كلُّ مؤمنٍ إقناع نفسَه بأنه لا شيء، وأنه إن كان مظهرًا لبعض ألطاف الله تعالى فليس بسبب أهليّته، بل على العكس؛ لحاجته وافتقارِه، وإن فقرَه وإفلاسَه هما السب في تنزّل رحمة الله تعالى واستجلابِ ألطافه. إن أول الطريق أمام الإنسان للتخلّص من عيوبه وتقصيره هو معرفة هذه العيوب أولًا، ويجب أن يعقب هذه المعرفةَ إحساسٌ بالندم والألم لكي يستطيع الإنسان الخلاص منها.

إنّ من أهمّ النِّعَمِ على المؤمنين حبّهم كلّ ما يُناطُ بالإيمان وكرهُهم ونفورهم من كلّ ما يُناطُ بالكفر والفسوق والعصيان، ويستطيع الإنسان بهذا الحبّ وبذلك الكُرْهِ التسلّق إلى قِمَمِ الإنسانية والإيمان، ويتخلّص من كلّ العوائق والمثبّطات وإلى هذا الأمر تُشِيرُ الآية الكريمة: ﴿وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ، فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (الْحُجُرَاتِ: 49/7-8)، إذًا فإنّ الله حبّب الإيمان وزيّنه في قلوب المؤمنين.

الدموع أعدلُ شاهدٍ على رقّة الطبع وجمالِ الروح، وكلُّ قطرةٍ منها تعادلُ مياهَ الكوثر في الجنة، وجفافُ الدموع حالةٌ من البؤس التي يُرثى لها.

إن كان المقصود من هذه الآية الصحابة الكرام، فقد كان هذا السلوك في الحقيقة هو طبعهم العام؛ إذ كانوا يحبّون إلى درجة الوجد كلّ المسائل المتعلقة بالإيمان وكلّ الأحكام المتعلقة بالعبادات، وينفرون ويكرهون الكفر وكلّ ما يؤدّي إليه، وبفضل إيمانهم هذا كانوا وهم في الدنيا يشعرون وكأنهم يعيشون في الجنة؛ ولذا فالعودة إلى الكفر مرة أخرى يعني لهم ترجيح الاحتراق بلهيب جهنم على الترفّه بنعيم الجنة. لذا فقد وصلوا إلى مرتبة الرشد، وكان هذا فضلًا كبيرًا من الله ونعمة.

—————–

المصدر: محمد فتح الله كولن، الاستقامة في العمل والدعوة، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، صـ147-149.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

[1] سنن ابن ماجه، الزهد، 19.

[2] سنن الترمذي، فضائل الجهاد، 12.