من المؤسف أننا نعايش ومنذ عدة قرون موجةً لإبعاد الناس عن الإيمان بالله تعالى، واستئصالِ حبِّ النبي عليه الصلاة والسلام من الأذهان، وإمحاءِ حسّ العبودية، فلم يبق هناك شعورٌ بالخضوع والخشوع، وترَكَ الإسلام الحقيقي مكانه للإسلام الشكلي الظاهري، إلى أن ذاب الحماسُ وانمحق من القلوب، وضاعت الحساسية في المشاعر تجاه الحق تعالى، انسلخت الأرواح وولّت، وخَبَتْ حياةُ القلب، وتلوَّثَ المنطقُ والمحاكمة العقلية بلوث العصر، وانهزم البشر لأهوائهم ونزواتهم، ويشيرُ إلى ذلك الأستاذ “بديع الزمان سعيد النورسي” بقوله: “قلعةٌ خربةٌ منذ قرون”، أما الشاعر “محمد عاكف أرصوي” فإنه يصور الحقبة التي عاشها بهذه المصاريع:
إن الواردات لا تتنزل على الأرواح الميتة ولا القلوب الملوثة، أما الوجدان المنطفئ والعقول المتوقفة عن العمل فليس لديها ما تقدمه للآخرين.
أينَ الإسلام؟ بل أين الإنسانية؟
لقد افتقدناهما كلّيًّا وبالتمام
فإذا كانت الغاية خداع العالم؛
فلن يُخدَعَ أحدٌ في هذه الأيام
وكم من مسلم حقيقي عرفتُ!
إلا أنهم في القبر يرقدون تحتَ الركام
لستُ أدري أين أجِدُ الإسلام!
كأنّه في السماوات العُلى فوقَ الغمام!
إذا ما طرحتم الجانب الذي يدفع إلى اليأس؛ فهذه هي حقيقة الأمر، إنها قطعةٌ شعريةٌ رائعةٌ في رسم حالنا وتصويره.
على الذين نذروا أنفسهم للإصلاح والتعمير أن يمتلكوا طاقة لا تنضب، وحماسة تمكنهم من الاستمرار في الطريق دون تعثر، وأن يبقوا عالمهم الوجداني طاهرًا على الدوام.
شاشات التلفاز والحاسوب والهاتف تصبُّ باستمرار شتى أنواع اللوث في أذهاننا، والعين تثير المشاعر السلبية، والقدم تنزلق نحو الذنوب مباشرة، والأذن تسمع ما لا ينبغي لها أن تسمعه، واليد تمتد إلى الحرام… وكم من جرائم وجرائم تُتركب بهذه الصورة! يُجرح القلب بضع مرات يوميًّا، وفي الآخرة لا يُقبل إنسان يحمل قلبًا كهذا! ولا سيما إذا كان لا يستشعر غصَّة السلبيات التي يتعرض لها، ولا يتوجه بهذا الخوف إلى رحمة ربه الواسعة! وهذا يعني أنه عندئذ يرحل إلى الآخرة بلا زادٍ زاهدًا ومستغنيًا عمّا عند الله تعالى.
كيف تستشعر هذه الأدمغة -التي تلوَّثت إلى هذا الحد- الحق تعالى بشكل صحيح! وإلى أيِّ مدى تستطيع أن تعرف سيد الأنام! لا أعرف كم مرة يجب أن ننظف أذهاننا يوميًّا حتى يتسنى لنا الاقتراب إلى الأشياء الطاهرة بطهر ونقاء، إن اللامبالاة في مواجهة الذنب والإثم ذنبٌ أكبر من الذنب، وهو مما لا يُغتفر، والتحلُّلُ من المسؤولية بقول: “ما ذنبنا!”، واعتبار المرء نفسه بريئًا إثمٌ عظيم، ذلك أن إنسانَ اليوم ما زال يتصرف وكأن شيئًا لم يكن على الإطلاق.. وكما أن من وُلدوا في الظلام لا يعرفون النور، ومن نشؤوا في الشتاء لا يعرفون الربيع؛ فإن إنسان عصرنا الذي نشأ في حقبة حالكة الظلام منذ ثلاثة قرون مضت دون أن يرى ربيعًا أو صيفًا؛ يجد التلوث والروائح الكريهة المحيطة به أمرًا طبيعيًّا.
الذين يقفون في الصلاة أمام الله تعالى بغير إدراك ووعي من أمثالنا من المسلمين الشكليين لن يستطيعوا إصلاح تخريبات الروح العظيمة.
ولأننا نشأنا في فراغ إيماني فإننا لا نستطيع معرفة القيم الخاصة بنا ولا نقدرها حق قدرها، وما استطعنا هضمها ولا جعلها جانبًا من جوانب طبيعتنا، ولو أننا استطعنا فعل هذا لَالْتزمنا الاستقامة دائمًا في جلوسنا ونهوضنا ونومنا وحديثنا وتفكيرنا؛ نفكر باستقامة، ونتنفس باستقامة، ونتصرف باستقامة، ونعامل الآخرين أيضًا في إطار الاستقامة، نسأل الله أن يهنأ من عملوا في المساجد ومراكز تعليم القرآن ومدارس الأئمة والخطباء والمدارس الشرعية، وأخذوا بأيدينا.. فلولاهم أيضًا لما تحصَّلْنا ولو حتى على المعلومات البسيطة التي لدينا الآن.
إلا أن ما سمعناه وتعلمناه ظلَّ ضمن أطر التنظير، ولم نستطع أن نجعله جزءًا من وجداننا وضميرنا، وعجَزْنا عن تكوين كرةٍ من المعاني بداخلنا بحيث تُحركنا مثل الدينامو، وتدفعنا باستمرار إلى الخير والاستقامة.. إننا لم نستطع أن ندرك أفق العلاقة التي تقشعر فيها أبداننا عند ذكره تعالى، تأخَّرْنا في معرفة الله ومحبته؛ لأن من علمونا الإسلام دائمًا ما تجولوا حول النظرية، فكانوا لا يدرون شيئًا عن هؤلاء.
ينبغي علينا إعادة إعمار قلعتنا الخربة منذ عصور، فالإنسان الذي تعرَّضَ عالمه الروحي والمعنوي للشلل يجب إعادته إلى ماهيته الإنسانية كرة أخرى.
الإسلام الشكلي
وعليه فإن الإسلام الذي يعيشه الناس في يومنا الحاضر إنما هو إسلامٌ تقليدي.. إنهم يعيشون دينهم كما رأوا من أجدادهم، فما تتجاوز العبادات عندهم الشكلَ، لقد وقَعْنا في هذا المَزْلَقِ ولم نُعطَ الفرصة للاطلاع والشعور ومشاهدة حقيقة وعمق الدين الذي نعيشه، لهذا السبب أيضًا لم نستطع أن نرى الإسلام ونتعرف عليه من مستوى وفلك مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم، ظَللْنا بعيدين عن الإسلام الذي عاشه الخلفاء الراشدون والصحابة كل البعد، ما تسنى لنا أن ندرك أفق أمثال الأئمة أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم.. وما استطعنا اتباع منهج الشيخ الجيلاني والإمام النقشبندي ومولانا خالد والإمام الرباني قدس الله أسرارهم؛ ما قدرنا أن نرتقي بعبوديتنا إلى مستواهم، لقد ظَللْنا غرباء وفي منأى عن مشاعر وأحاسيس هؤلاء الأشخاص العظام الذين يقفون حتى الصباح بين يدي الله خشوعًا وخضوعًا والتجاءً وتذلُّلًا وتعبُّدًا.
إن العالم الإسلامي يحترق مستعرًا، ويُداس شرفنا وعزتنا تحت الأقدام، ومع ذلك لا نحزن ولا نتأثر.
تُرى لماذا كان مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم يتعبد حتى تتورم قدماه؟ ما الذي كان يُخيف الصحابة الكرام رضوان الله عليهم من أن يموتوا منافقين؟ ما المخاوف التي كانت تُغرق أولياء الله الصالحين في دموعهم؟ إذا ما فُحصت حياة معظمهم بدقة وعناية لما وجدتم ذنبًا ولو بقدر جناح بعوضة.. لقد كانوا يتلوّون ألمًا حتى بسبب بعض المواقف التي قد تعلق بخيالاتهم وتصوراتهم، والتي يعتبرونها من وجهة نظرهم غير لائقة بهم، بل إن معظمهم كان يخاف من ألّا يُختَمَ له على الإيمان.. أحد هؤلاء هو “الأسود بن يزيد النخعي” (ت: 75هـ) من التابعين العظام، حيث راح يبكي بحرقة حين أوشك أن يُسلم روحه إلى بارئها، فقال له قريبُه “عَلْقَمَة بن قيس” (ت: 681م): “ما هذا! هل تخاف من ذنوبك؟” فابتسم سيدنا “الأسود” متألمًا وردَّ عليه قائلًا: “أيُّ ذنب! إنني أخاف من أن أموت على الكفر!”، وبعد موته رآه علقمة في منامه فسأله كيف عامله الله تعالى، فأجابه قائلًا: “والله ما بقيت بيني وبين الأنبياء إلى مسافة أربعة أصابع”.
يجب على الإنسان أن يحمل في داخله دائمًا همَّ الآخرة، وأن يقول: “أنا مرشح للأبدية، لرؤية جمال الله، لمقام يقول فيه تعالى “أنا راضٍ عنك”.. فيستحيل استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.
إن مَن لا يخشى على نفسه من سوء العاقبة هو مَن يجب أن يُخشى عليه مِن سوءِ عاقبته، فَمَن لا يحمل في قلبه ووجدانه همَّ وخوفَ الرحيل إلى الآخرة حريٌّ أن يُخاف على عاقبته، إن هؤلاء الأشخاص العظام لما خافوا في الدنيا أمنوا في الآخرة؛ ذلك أنه ورد في الحديث القدسي أن الله تعالى لا يجمع بين أمنين ولا بين خوفين(1)، وبالتالي فإن من يترك لنفسه الحبل على غاربه، ويعيش حياة خالية من قيود الحذر والحَيطة يكون قد عاش الأمن والطمأنينة هنا، ولم يترك شيئًا للآخرة، والحال أنه يجب على الإنسان أن يحمل في داخله دائمًا همَّ الآخرة، وأن يقول: “أنا مرشح للأبدية، لرؤية جمال الله، لمقام يقول فيه تعالى “أنا راضٍ عنك”.. فيستحيل استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير”، ويجب عليه أن يعيش حياة حسّاسةً إلى حد كبير طلبًا لنيل هذه الأشياء الثمينة، وأن ينشغل ويهتم خوفًا من أن يفقدها بعد أن ينالها.
لقد نسينا هذه الملاحظات كلها في ظلِّ عواصف العصر، وظلّ الإسلام مربوطًا بالشكل، وبمعنى أصح لم يبق شيء كثير يمكن أن يفعله المسلمون من أجل إصلاح مستقبلنا.. ومثل هذا الفهم للإسلام لا يمنحنا أيَّ أمل ولا طاقة على الإطلاق، إننا وإن نكرر حياتنا خمسين مرة بنفس المنهجية الدينية التي تعلمناها من أجدادنا فإننا لا نستطيع أن نفعل شيئًا، ولا أن نبلّغ العالم شيئًا على مستوى الخلفاء الراشدين، ذلك أن أولئك الناس غيروا وجهَ العالم في حقبةٍ زمنية قدرُها ربع قرن من الزمان، وتلك النجاحات ليست مما يتحقق بالقوّة أو القدرة فحسب، وليست بإسلام لا يتجاوز كونه شكليًّا؛ إنها قضايا تُحَلُّ بلغة القلب والروح.
إن من يترك لنفسه الحبل على غاربه، ويعيش حياة خالية من قيود الحذر والحَيطة يكون قد عاش الأمن والطمأنينة هنا، ولم يترك شيئًا للآخرة.
وكان “السلطان أحمد” يقول في عصر ازدهارنا:
بفراقك سيدي لم تبق فيَّ طاقة،
تمزق هذا القلب، ولم تبق في العشق محبة
لقد أبكاني أنا المسكين ذلك الحكم والقضا
فلم يتبق من البكاء لسيدنا يعقوب أية نوبة
كم هو مؤلم أن يتحول بنا الحال من مثل هؤلاء السلاطين لأناس مجانين مهووسين بالسلطنة والسلطة! والمجتمع أيضًا متذبذب مثل الأفراد تمامًا، فأحيانًا يسابق الملائكة، وأحيانًا أخرى يعيش انقباضًا مُريعًا، يُضيّق الفضاءات التي في ماهيته ويقلّصها ويخنقها، وبدلًا من أن يعمل على انفتاح فضاءات روحه يحبسها في ضيق الجسم وقوقعته.
مَن لا يخشى على نفسه سوء العاقبة هو مَن يجب أن يُخشى عليه مِن سوءِ عاقبته، فَمَن لا يحمل في قلبه ووجدانه همَّ َ الرحيل إلى الآخرة حريٌّ أن يُخاف على عاقبته.
إن الناس في عصرنا يعيشون خريفًا حقيقيًّا مقارنة بالعصور الوردية التي كانت في الماضي، والأكثر من هذا هو عجز البعض حتى عن إجراء هذه المقارنة! كم تردينا حتى إننا لا نستطيع الشعور بهذه الأعماق، ولا إجراء هذه المقارنات، إن العالم الإسلامي يحترق مستعرًا، ويُداس شرفنا وعزتنا تحت الأقدام، ومع ذلك لا نحزن ولا نتأثر! إننا نبخل حتى عن أن نذرف بضع قطرات من الدمع في هذا الشأن، وإن كانت الأمارات الخاصة بالبعث والإحياء محفوظة مستورة فإنني أظن أنه لم يحدث جدب ولا جفاف في أية فترة من التاريخ بقدر ما حدث في عصرنا، إنني أتردد دائمًا فيما إذا كان قول هذا صحيحًا أم خطأً.
وبالرغم من كل هذا أتمنى أن يكون لدينا توقع صادق ومخلص، ليتنا نستطيع القول: “تُرى هل هناك زمان أو يوم آخر من أيام الله؟” إنها الأيام التي حلَّق فيها الاسم الإلهي الجليل عاليًا، وعاش الناس حياتهم في طمأنينة خلف سيد الأنام، إن مثل هذا الفضول والتطلع يدفع الناس -على الأقل- إلى البحث عن الأيام الطيبة والمشرقة، يستحيل عليكم أن تجدوا شيئًا ما لم تبحثوا عنه.. وكما هو مذكور في أحد الأحاديث النبوية الشريفة فإن من يعيش بداخله قلقًا وهمًّا يخرج في رحلة السَّحَر، ويتوج سجادته بالتهجد والدموع، ومن يفعل هذا يصل إلى منزله ومستقره، لكن الإنسان حين يعتبر كل شيء يعيشه طبيعيًّا، ولا يكون لديه أيُّ فضول ولا رغبة، أي حين لا يقول “تُرى أليس هناك ما هو فوق ذلك؟”؛ سوف يُحكم عليه بالركود والثبات مكانه.
إذا ما فُحصت حياة الصحابة الكرام بدقة وعناية لما وجدتم ذنبًا ولو بقدر جناح بعوضة.. لقد كانوا يتلوّون ألمًا حتى بسبب بعض المواقف التي قد تعلق بخيالاتهم وتصوراتهم.
إعمار قلعتنا الخربة منذ عصور
ينبغي علينا إعادة إعمار قلعتنا الخربة منذ عصور، فالإنسان الذي تعرَّضَ عالمه الروحي والمعنوي للشلل يجب إعادته إلى ماهيته الإنسانية كرة أخرى، فليس من السهل توجيهه نحو إحياء حياة القلب والروح من جديد، فكما أن إصلاح جهاز صغير يحتاج إلى علم وممارسة جادة، فما بالنا بإصلاح القيم المعنوية التي انقلبت رأسًا على عقب! لا شك أن الأمر يحتاج إلى همة عالية وجهد مكثف. نعم، يجب إصلاح القلوب الخربة، وإثارة حماستها من جديد، فإحياء الشعور الإسلامي المفقود يحتاج إلى بذل جهد كبير.
والذين يقفون في الصلاة أمام الله تعالى بغير إدراك ووعي من أمثالنا من المسلمين الشكليين لن يستطيعوا إصلاح هذه التخريبات العظيمة، وبغضِّ النظر عن إعمار القلعة العظيمة، أو إرشاد العامة للتمسك بالدين، فإن إيماننا هذا عاجزٌ عن إصلاح عالمنا الداخلي أصلًا، لأن الإسلام الشكلي لا يحل أية مشكلة، بل إن كل الشجارات المصنوعة باسم الإسلام تعود أصولها وأسبابها إلى الإسلام الشكلي، ومع الأسف فمن ناحية هناك جهّالٌ يقومون بتفجير أنفسهم وقتل الصغار والشيوخ والنفوس المعصومة باسم الإسلام ويظنون أنهم يخدمون الإسلام، ومن ناحية أخرى هناك فاقدو الحس والشعور الذين لا يبالون بأي شيء، وكما أن العنف والإرهاب والوحشية لن تحقق شيئًا فكذلك فقدُ الحس والشعور.. ودع عنك الحديث عن تعميرهم للقلعة الخربة منذ عصور، وتعمير القيم المنهدمة وإقامتها لتقف على قدم ثابتة من جديد، فإنني أعتقد أن هؤلاء لن يتمكنوا من مداواة جراحهم الداخلية أصلًا.
لم نستطع أن نرى الإسلام ونتعرف عليه من مستوى وفلك مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم، ظَللْنا بعيدين عن الإسلام الذي عاشه الخلفاء الراشدون والصحابة كل البعد.
ولذلك ينبغي على الذين نذروا أنفسهم للإصلاح إعادة النظر في عبوديتهم، وفي صلتهم مع الله سبحانه وتعالى، عليهم أن يربطوا عبوديتهم بملاحظة أن الحقَّ مطلع عليهم وناظر إليهم في كل وقت وحين، ولذلك فالواجب عليهم أن يزيلوا كل الوسائط وأن يتوجّهوا مباشرة إلى طريق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدخول في عالمه، وإدراك معنى الإسلام هناك.. وبدلًا من التوجه لمن يتقدمون الناس ويتزعّمونهم بعمائمهم وجببهم فالأولى التوجه إلى سيدنا أبي بكر الصديق وإلى سيدنا عمر الفاروق وإلى سيدنا عثمان وإلى سيدنا علي رضي الله عنهم أجمعين، فهؤلاء هم من يجب أن يكونوا قدوةً نهتدي بهديهم… والحذرَ الحذرَ من التعثر بالذين يقومون بمهامهم الدينية كأنهم ممثلون في المسرح أو كشخصية في أحد الأفلام أو المسلسلات من أصحاب الإسلام الشكلي.. إنما الواجب هو التوجه مباشرة إلى عصر السعادة ومعاينة حياة أربابه والمواظبة على الطريق الذي ساروا عليه.
وعلى الذين نذروا أنفسهم للإصلاح والتعمير أن يمتلكوا طاقة لا تنضب، وحماسة تمكنهم من الاستمرار في الطريق دون تعثر، وأن يبقوا عالمهم الوجداني طاهرًا على الدوام متجهزين لتوجه الله تعالى.. وما يشرحونه لا يكون بالألفاظ فقط بل هو أمانة استودعوها أحوالهم وأطوارهم، لأن كل أمر لا يصبح جزءًا من القلب ولا يُـمثَّل بالحال والطور لا يمكن أن يجد في قلوب الآخرين صدًى له.. إن الواردات لا تتنزل على الأرواح الميتة ولا القلوب الملوثة، أما الوجدان المنطفئ والعقول المتوقفة عن العمل فليس لديها ما تقدمه للآخرين.
إن الإسلام الذي يعيشه الناس في يومنا الحاضر إنما هو إسلامٌ تقليدي.. إنهم يعيشون دينهم كما رأوا من أجدادهم، فما تتجاوز العبادات عندهم الشكلَ.
وإذا أردنا أن ننجو من الظلمة التي نعيشها منذ ثلاثة قرون فعلينا بالتوجه إلى الله سبحانه وتعالى، فهو صاحب القدرة القاهرة والإرادة السبحانية، ولو تفضّل علينا بتوجهه ستتنور دنيانا وعقبانا معًا، وبقدر ما تفتحون وجدانكم للحقّ جل وعلا فستنفتح لكم صدور الناس، وبقدر ما تتوجهون إلى جناب الحق سيتوجه الخلق إليكم، وإن لم يحدث هذا اليوم فسيحدث غدًا..
الشكل قنطرة للوصول إلى الحقيقة
إذًا، هل ما يقوم به المسلمون من عبادات شكلية يذهب سدًى؟ هذا ما لا يجوز لنا قوله، بل على العكس إن الشكل يُعد قنطرة موصلة للحقيقة، ولكن المهم هو عدم الاكتفاء بالشكل وبما تعلمناه في الكتاتيب ونحن صغار، ومواصلة الطريق للوصول إلى حقيقة الأمر، وهؤلاء الواقفون على قنطرة التقليد عليهم العمل للوصول إلى التحقيق..
إن علماء أهل السنة أقروا إيمان المقلد واعتبروه، فما هو الإيمان التقليدي؟ هو ما وجد أجداده عليه من إيمان وتلقّاه منهم أقوالًا وأفعالًا، ولكن دون أن يكتشفه بذاته أو يشعر به، ودون أن يكتسبه كعمقٍ في طبيعته، ويرى علماء أصول الدين أن هذا الإيمان مقبولٌ، لماذا؟ لأن هذا الطريق يُعد أول مرحلة، وقنطرةً للمرحلة التي تليها، وعلى الإنسان ألّا يبقى في هذه القنطرة، بل يمر من خلالها كي يصل إلى الحقيقة، ولكن إن لم تصلوا إلى التحقيق وبقيتم في أماكنكم، فوفقًا لرؤية أهل السنة الواسعة والرحيمة ستنجون، وعليكم ألا تنسوا أنكم عرضة للوقوع والزلل في كل وقت، فَقَدَرُ الواقفين على قنطرة التقليد السقوطُ معها إذا انهارت، نسأل الله السلامة للجميع.
إن إنسان عصرنا الذي نشأ في حقبة حالكة الظلام منذ ثلاثة قرون مضت دون أن يرى ربيعًا أو صيفًا؛ يجد التلوث والروائح الكريهة المحيطة به أمرًا طبيعيًّا.
نعم، يجب ألا نكتفي بالإسلام الشكلي ونسعى دائمًا للوصول إلى العبودية الحقيقية، فالأستاذ النورسي يقول بأن وقوف المرء في مكانه واكتفاءَه بذلك يُعدّ من قلة همته، والأليق بالإنسان أن يكون دائم السير في أفق “هل من مزيد؟” فعليه أن يستنطق كل شيء، ويبحث دائمًا عن أجهزة عرض متنوعة للحقيقة، وعليه ألا يتعثر أثناء بحثه بفلان وعلان، ولا ينخدع بالمظهر والزي، بل عليه أن يتوجّه إلى مداره الأصلي، وأن يوجّه النظر إلى القلب، والحماسة البادية على سيماء الوجه، والدموعِ الساكنة في العين، والإخلاص الداخلي، فالمتصفون بهذه الصفات هم القدوة وسبيلُهم موصلٌ إلى الله سبحانه، وإذا تُرك هذا الطريق فالمصيرُ هو التعثُّر في الشكل والصورة، والانخداع بالإسلام الشكلي السائد.
ينبغي على الذين نذروا أنفسهم للإصلاح إعادة النظر في عبوديتهم، وفي صلتهم مع الله سبحانه، عليهم أن يربطوا عبوديتهم بملاحظة أن الحقَّ مطلع عليهم وناظر إليهم في كل وقت وحين.
إن المستقبل أمانة من الله لأوليائه، وهؤلاء هم الذين يضبطون أفعالهم وحركاتهم بقدر عمق شعورهم بصلتهم مع الله تعالى، ويغذون إيمانهم بالعمل والفاعلية، ويتوجون الإيمان بالإحسان، ويسارعون دائمًا نحو “معية الله” وينقّبون عن الطرق الموصلة إلى القرب من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، وينصتون إلى الله تعالى في كل خفقة قلب، أما الهدف الذي يجعلونه عرشًا على عالم مشاعرهم وأفكارهم فهو الحياة وفقًا للإسلام -أمانةِ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم- بصورته التامة والكاملة وإحياؤه في نفوس الآخرين، ولذلك فهم دائمًا في جلوسهم وقيامهم يشيرون إلى الله تعالى ويرددون “صحبة المحبوب”، والجدية المرتسمة على أطوارهم وأسلوبهم والبادية على سيماهم تذكّر كلَّ من ينظر إليهم بالله تعالى، فالأولياء هم الذين يداومون على ما قام به الأوائل ويتوّجون كلّ ذلك برضا الله تعالى، والمستقبل سيكون عامرًا على أيديهم، وأسأل الله أن يجعلكم منهم.
طوبى للغرباء
لقد تفضل الرسول صلى الله عليه وسلم في أحد الأحاديث الشريفة فقال: “بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَهُ النَّاسُ”(2)
لقد بدأ الإسلام غريبًا، لأن إدراك دين التوحيد، وفهمَ رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، والتوجّه إلى جناب الحق، والشعور بلذة ونشوة هذا التوجه لم يكن ممكنًا لإنسان الجاهلية الذي كان يعبد الوثن والصنم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أفاد أن الإسلام الذي نشأ غريبًا وسط الصحراء سيعيش غربة جديدة ومن بعدها يبشر هؤلاء الذين يتساءلون بِـهَـمٍّ في زمن الغربة بعد ما تبعثرت القيم وتهدمت عن إمكانية إصلاحها قائلين: “يا ترى هل من الممكن أن نقيم صرح الروح مرة أخرى؟”، وهذا يعني أن نيل هذه البشارة العظيمة لا يتحقق بالنوم كالمساكين، وإنما من خلال بذل الجهد والإصرار على تحقيق الأمر والعمل على استجلاب الربيع.
إن اللامبالاة في مواجهة الذنب والإثم ذنبٌ أكبر من الذنب، وهو مما لا يُغتفر، والتحلُّلُ من المسؤولية بقول: “ما ذنبنا!”، واعتبار المرء نفسه بريئًا إثمٌ عظيم.
والذين أطلقوا لأنفسهم العنان في الراحة ستُمحى آثارُهم ويذهبون، إلا أنهم سيتركون للأجيال القادمة من ورائهم الكثير من الهموم والمشاكل، أما الذين يصرون على أسنانهم صبرًا في هذه الحياة ويظهرون قوامًا يقفون به خلف الصحابة رضوان الله عليهم؛ فسيتركون للأجيال من خلفهم دنيا عامرة، وفي هذه الأيام يبدو في الأفق الشفق الكاذب مبشرًا بالشفق الصادق، ولذلك فإنني لا أنظر إلى الأمور بنظرة سوداوية، فلقد بدأ المسلمون في تهجي القيم المترشحة من جذورهم الروحية والمعنوية، وسيأتي اليوم الذي يضعون فيه أجمل قافية لهذه القصيدة الشعرية، وأرجو أن تكون قافية هذا الشعر الصلاة على رسولنا صلى الله عليه وسلم.
************************************
(1) انظر: ابن حبان: الصحيح، 2/406؛ البيهقي: شعب الإيمان، 1/483.
(2) مسند الإمام أحمد، 2/177، 222؛ ابن أبي شيبة: المصنف، 7/83.