سؤال: لا جرمَ أنّ تكبُّرَ بعض الأقوام المذكورين في القرآن الكريم وتمرّدَهم واحدٌ من أسباب استساغتهم ممارسة الإيذاء والتعذيب للأنبياء الذين بُعثوا إليهم، فما دور الكِبر في الظلم الواقع في حاضرنا؟
الجواب: كما أن التواضع مفتاح كل الخيرات فالكبر أيضًا مفتاح كل الشرور، إن الكبر يعني أن الإنسان المخلوق العاجز الفقير الذي خلقه الله تعالى في الأرض يرى نفسه أكبر من حجمه الحقيقي، أو أن ينسب إلى نفسه بعض النعم التي منَّ الله عز وجل بها عليه ويعزوها إلى نفسه، وفي الحقيقة وجودُنا ونَيلُنا الحياة وخلقُنا بشرًا وتزويدُنا بمجموعة من الملكات والقابليات لطفٌ إلهي تام.. شكلُنا ولونُنا ونوعُنا وعقلُنا والخصائصُ الأخرى التي نمتلكها لا دخل لنا في أيّة واحدة منها على الإطلاق؛ فهذه جميعًا نعمٌ وهبَنا الله إياها منذ الخلقة فضلًا منه ومنّةً، ولقد كان من الممكن أن نُخلق خلقًا آخر أيضًا.
الوجه القبيح للكبر
إن ادعاء الإنسان حيازته لهذه النوعية من الخصائص التي ليست له، والتي لم يحصل عليها بإرادته وجهده، وزعمَه التفوّق بها على الآخرين يعني اغتصاب حقٍّ من حقوق الله، كما يعني سوءَ أدب معه جل وعلا، ولا يمكن أن يكون هناك عيب أقبح من هذا، ويمكننا فهم وضع شخص كهذا بمن ألبَسهُ الآخرونَ ثيابًا جميلةً للغاية وزينوه وجملوه؛ فنهضَ يتفاخر ويتبخترُ مغترًّا بهذه الثياب التي ليست له أساسًا.. فذاك هو الكبر.
لقد ساق التكبر والمرض العقلي “رؤية النفس أكبر من حجمها الطبيعي” الإنسان إلى التمرد والعصيان، ولا سيما إن كان مثل ذلك الشخص يستند إلى كيان قوي يعزو من خلاله كل شيء إلى نفسه.
وعلى حين يمتدح القرآن الكريم والسُّنة النبوية التواضع والتفاني، يذمان الكبر والمتكبرين ويعيبان عليهما، وليس في القرآن الكريم ولا في السُّنة النبوية المطهرة ولا بين كلام السلف الصالح شيء فيه تقدير للكبر واعتبار له، الاستثناء الوحيد في هذا هو ما رُوِيَ أن معاملة المتكبر بالمثل صدقة، ذلك لأن التواضع والخجل أمام المتكبرين المتغطرسين يكون مذلة، والأصل هو الوفاء بحق المكانة، والتعامل بعزّة مع أمثال هؤلاء.
وبخلاف هذا فقد عيب الكبر دائمًا؛ لأنه مرض عظيم يحول دون الإيمان كما يمكن أن يؤدّي إلى الخروج من دائرة الإيمان، فالحق والحقائق تفقد أهميتها وقيمتها في نظر الإنسان المتكبر؛ إذ يُعرض عن الحق بالرغم من رؤيته إياه، أو يسعى إلى إلباسه لباسًا آخر من خلال مجموعة من المغالطات، فليس من الممكن أن ينظر الإنسان المتكبر بإنصاف وحق إلى الحوادث والوقائع، وأيًّا كان السبب والحجة فإن من يرى نفسه أعلى من الآخرين وينظر إلى ما حوله باستحقار واستصغار لا يستطيع التصرف بعقلانية، ولا رؤية الحقائق على طبيعتها في معظم الأحيان.
المساكين الذين انهزموا لكبرهم هم في يومنا هذا سينظرون باستعلاء إلى القلوب المضحية التي تركض في سبيل إعلاء كلمة الله، وسيفعلون ما بوسعهم حتى يخربوا لهم طريقهم الذي يسيرون فيه.
فمثل هؤلاء الأشخاص يتصرفون وفقًا لما لديهم من أحكام مسبقة بشأن الآخرين دون أن يعرفوهم عن قرب، ولا أن يتحققوا من أمرهم بدرجة كافية، فالمتكبرون الذين يظنون أنهم يعلمون كل شيء يصنفون الناس من فورهم، ويذهبون إلى تعريفهم بحسب هواهم بدلًا من التعرف عليهم وعلى أفكارهم، وبعد أن يضع هؤلاء الناس تصورًا سلبيًّا في عقولهم تجاه البعض يصبح من الصعوبة بمكان أن يتم تغييرُ أفكارهم وآرائهم، حتى وإن لم يروكم ولم يقفوا على أفكاركم فإنهم لا يتورعون عن الكلام في حقّكم وانتقادكم بسهولة..
إنهم إن قرروا التصدي لكم وانتقادكم، سواء أكان ذلك بسبب الكبر الناشئ عن أنانيتهم الشخصية أو عن أنانيتهم الجماعية، فإنكم لن تستطيعوا منع تمرّدهم هذا لاحقًا مهمَا قلتم أو فعلتم.. إنهم يبدؤون في التشكيك حتى في أكثر تصرفاتكم براءة وعصمة؛ فيختلقون أمورًا يستحيل حدوثها، ويستخدمونها ضدكم.. بل إنهم يُحرفون إجاباتكم وردودكم على انتقاداتهم، وينتقون من أقوالكم، ويقتطعونها من سياقها وسباقها؛ فيستخدمونها ضدكم.
متكبرو الماضي
بالنظر إلى سيرة حياة الرسل المذكورة في القرآن الكريم يتبين أن أمثال هؤلاء المتكبرين لم يغيبوا عن أي مرحلة من مراحل التاريخ، ليس مع المسلمين العاديين من أمثالنا فحسب، بل وعارضوا الرسل الذين بُعثوا إليهم وكافحوا ضدّهم كفاحًا مستميتًا، ولم تكف لهدايتهم وتصويبهم الصفات الأخلاقية السامية التي يتحلى بها الرسل ولا الوحي الذي جاؤوا به من عند الله تعالى، ولا المعجزات التي أيدهم الله تعالى بها.
قد يتساءلُ البعض ضمنيًّا فيقول: “بالرغم من أننا نضطلع بهذا القدر من الأعمال الجميلة والخيرة لنفع وصالح الإنسانية وسلامتها، لماذا نتعرض لهذا القدر من الإيذاء والعناء؟”. حسنٌ؛ ألم يضطلع الأنبياء العظام بأشياء جميلة؟!
فمثلًا عندما دعا سيدنا نوح عليه السلام، وهو من أولي العزم من الرسل، قومه إلى الإيمان بالله وعبادته وحده رد عليه كبار صناديد قومه فقالوا: ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ (سورة هُودٍ: 11/27). أجل، لقد استحقر كفار تلك الفترة المؤمنين من جانب، واتهموا سيدنا نوحًا عليه السلام بالكذب من جانب آخر، وإذا نظرتم إلى ظاهر ما قالوه رأيتم أنه يندرج تحت عنوان عريض ألَا وهو “الكبر”.
وبالشكل نفسه قابل قوم سيدنا هود عليه السلام دعوته بقولهم: ﴿يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ۞ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ (سورة هُودٍ: 11/53-54)، فهل هذا كلام يُقال للرسل الذين هم أكثر البشر منطقية ومحاكمة عقلية في الدنيا؟! لا شك أن من يقولون هذا الكلام الحقير -الذي يشق علينا مجرّدُ نقلِه- للرسل ذوي الصدق والأمانة والعصمة والفطانة، والمتصلين بعوالم الغيب الذين يعيشون في ظلال زخات الإلهام؛ لا شك أنهم يعيشون في لجة مرعبة ومخيفة من الكبر والتمرد.
ما تعرض له الرسل الآخرون على يد زعماء أقوامهم لم يكن مختلفًا عن هؤلاء، فقد جات تصرفاتهم العامة في صورة الإعراض عن أنبيائهم الذين يدعونهم إلى الحق والحقيقة، وسخريتهم منهم، وتكذيبهم إياهم، واستخفافهم بهم أو تهديدهم إياهم، ولم يقف سوء أدبهم وجرأتهم على أنبيائهم عند مجرد الكلام فحسب، فقد رجموا بعض الأنبياء بالحجارة، ولم يتركوا للبعض فرصة ليعيشوا حياة عادية بما مارسوه تجاههم من تضييق وضغط، وقد نفوا بعضهم، وقتلوا البعض الآخر.
عندما ننظر إلى الحياة السنيّة لسيدنا رسول الله ﷺ يتبين أن رمز الشفقة والرأفة هذا لم يطأ عن قصد ولو حتى نملة واحدة طيلة حياته، لقد وقف دائمًا إلى جانب الفقراء والمحتاجين، وسعى إلى احتضان البشرية جمعاء بحبّه ومودّته، إلا أنه بالرغم من هذا اتُّهم بأنه -حاشا وكلا- ساحرٌ.
أما أنواع الإيذاء التي تعرض لها مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم على يد كبار منكري وكفار قومه فقد كانت أكثر من الجميع، لم يتركوا نوعًا من أنواع الإيذاء والتعذيب إلا ومارسوه ضدّه عليه الصلاة والسلام، حتى إن شقه القمر بإشارة من إصبعه -وهي واحدة من معجزاته- لم يكف لكسر عناد قومه، فقد واصلوا كبرهم حتى بالرغم من هذه المعجزة الواضحة، وقالوا إن هذا ليس إلا سحرًا، وقد صور القرآن الكريم تمردهم إزاء هذه المعجزة بقول الله تعالى: ﴿وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ (سورة القَمَرِ: 54/2).
لم يقبل المشركون بآيات القرآن أيضًا ولم يعترفوا بها، ووصفوها بأنها “أساطير الأولين”، وينقل الله تعالى إلينا تمردهم هذا بقوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ (سورة الأَنْعَامِ: 6/25).
كانت آيات القرآن الكريم تتحدث عن أخبار لا يمكن أن يعلمها إنسان أميٌّ نشأ في محيط مكة؛ كانت تحكي قصص الأنبياء السابقين، وتنبئ ببعض الأمور المستقبلية، وتصور مشاهد أخروية، وتشرح السنن والآيات الكونية، لكن كل هذا لم يكن يعني شيئًا بالنسبة للكافرين المتكبرين الذين يعاندون ويصرون على اعتقاداتهم التي توارثوها عن أجدادهم، ولذلك كانوا يجدون غلافًا يُغلفون به كل حقيقة، ويسترونها به، وقد عبروا عن كفرهم وعنادهم لما حكاه القرآن الكريم من أشياء خارقة للعادة: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ (سورة الفُرْقَانِ: 25/5).
عند النظر إلى ما يحدث يمكن القول إن متكبري عصرنا أكثر حدة وطغيانًا مقارنة بمن كانوا في العصور السابقة، لأنهم يستطيعون الكذب براحة تامة دون خجل أو حياء على الإطلاق.
كل هذا يكشف كيف أن التكبر والمرض العقلي “رؤية النفس أكبر من حجمها الطبيعي” ساق الإنسان إلى التمرد والعصيان، ولا سيما إن كان مثل ذلك الشخص يستند إلى كيان قوي يعزو من خلاله كل شيء إلى نفسه، عند ذلك يستعصي كبرهُ على السيطرة، ومثل هذا الشخص يُصاب بجنون نفسي حتى إنه لا يتقبّل أية حقيقة تُبلّغ إليه من الخارج، ومن يدور في هذا الفلك من جاذبية الشيطان يهرب من كل أنواع المعية والصحبة الطيبة؛ فلا يرغب في القرب لا من الله تعالى ولا من رسوله الكريم.
متكبرو يومنا الحاضر
وطالما أن تصرفات المتكبرين إزاء الحق والحقيقة كانت على هذا النحو منذ الماضي وحتى اليوم فإنها ستستمر هكذا لاحقًا أيضًا، ولن تكفي قوتكم لتغييرها، والمساكين الذين انهزموا لكبرهم هم وممثلو فكرة الإلحاد في يومنا هذا سوف ينظرون باستعلاء إلى القلوب المضحية التي تركض في سبيل إعلاء كلمة الله، وسيفعلون ما بوسعهم حتى يخربوا لهم طريقهم الذي يسيرون فيه، ويتهمونهم باتهامات باطلة لا أساس لها ولم تُعهد من قبل، فإذا كان هذا المنطقُ يرمي حتى الأنبياء بافتراءات يُسترفع عن ذكرها فما بالنا بما قد يُفعَل مع ممثلي نهج النبوة؟!
إن منطقًا واحدًا ينبعثُ منه كلٌّ من الإلحاد والإنكار والنفاق؛ فأنصار هذا المنطق الذين يحسبون أنهم عقلاء ويرون أنهم أسمى من غيرهم استعلوا على الجميع وحرصوا في كل فرصة على معاداة المؤمنين الذين لا يُشبهونهم، لم يتوانوا عن خداع الجموع الساذجة البسيطة بافتراءات غوغائية وجدلية وكاذبة، وسعوا دائمًا إلى جذبهم إلى جانبهم، ولكنه من الطبيعيّ أيضًا أن تأثيرَ كلامهم الملفق وأفكارهم المنحرفة هذه لا يدوم طويلًا؛ فكما يقال “شمعةُ الكذاب تنير حتى العِشاء”، و”حبلُ الكذبِ قصيرٌ”؛ إذ سينكشف يومًا ما الوجه الحقيقي لمثل هذه النوعية من شبكات الشر التي تبني كل خطاباتها وأقاويلها على الكذب والافتراء.
إن الأرواح المضحية في يومنا هذا تنتشر في جميع أنحاء العالم محمّلة بأفكار مثل القيام بأنشطة تعليمية وتأسيس جسور الحوار ومساعدة المحتاجين، وتسعى إلى تحقيق أفكارها تلك من خلال المدارس والجامعات ومراكز الحوار والمراكز الثقافية، وعلى حين تفعل هذا تتحرك بحساسية إلى أبعد الحدود لئلا تزعج وتؤذي أحدًا، لا تنتظر أي نفع ولا مصلحة من أحد، ولا تعمل ضد أحد، ولا تطمع في المناصب الدنيوية، كما أنها تترك دائمًا مسافة أمانٍ بينها وبين السياسة.
إن من يرى نفسه أعلى من الآخرين وينظر إلى ما حوله باستحقار واستصغار لا يستطيع التصرف بعقلانية، ولا رؤية الحقائق على طبيعتها في معظم الأحيان.
ومع أن هذه هي الأخلاق والتصرفات العامة لمتطوعي الخدمة إلا أن جهودهم البريئة في سبيل خدمة الإنسانية تزعج البعض؛ حيث يسعى هذا البعض إلى عرقلة الخدمات المبذولة، وذلك عبر استخدامه مجموعة من الحيل والدسائس التي لا تخطر على عقل ولا قلب، في حين أن الخدمات المتحققة حتى اليوم واضحة للعيان، فإن كان ثمّةَ شكٌّ وتردّدٌ وقلقٌ فيمكن الذهابُ إلى حيث توجد تلك الخدمات ومشاهدتُها، والتعرف عليها وعلى من يتبنّونها عن قُرْبٍ، فما يفعله إنسان لديه قليل من الإنصاف والإذعان هو الذهاب إليها ورؤيتها، والتحقق منها في مكانها، لكن المتمردين والمتكبرين يتحاشون ذلك على الإطلاق.
مشاق نهج النبي صلى الله عليه وسلم لماذا أقول كل هذا؟
– لأن البعض قد يتساءلُ ضمنيًّا فيقول: “بالرغم من أننا نضطلع بهذا القدر من الأعمال الجميلة والخيرة لنفع وصالح الإنسانية وسلامتها، لماذا نتعرض لهذا القدر من الإيذاء والعناء؟”. حسنٌ؛ ألم يضطلع الأنبياء العظام بأشياء جميلة؟! وما الذي فعله مفخرة الإنسانية؟ لقد قصروا حياتهم كلها على تبليغ وتمثيل الحقائق الدينية، ولكنهم بالرغم من هذا أُهينوا وأُوذوا حتى من قبل الدوائر الأكثر لهم قُربًا.
إن أنواع الإيذاء التي تعرض لها مفخرة الإنسانية ﷺ على يد كبار منكري وكفار قومه كانت أكثر من الجميع، لم يتركوا نوعًا من أنواع الإيذاء والتعذيب إلا ومارسوه ضدّه عليه الصلاة والسلام.
فمثلًا عندما ننظر إلى الحياة السنيّة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبين أن رمز الشفقة والرأفة هذا لم يطأ عن قصد ولو حتى نملة واحدة طيلة حياته، لقد وقف دائمًا إلى جانب الفقراء والمحتاجين، وحنَّ على اليتامى، وأطعم الجوعى، وسعى إلى احتضان البشرية جمعاء بحبّه ومودّته، إلا أنه بالرغم من هذا اتُّهم بأنه -حاشا وكلا- ساحرٌ، ووُصم ما جاء به بأنه “من أساطير الأولين”، وعارضه زعماء مكة في كل فرصة، وفعلوا ما بوسعهم من أجل إثنائه عن مواصلة الطريق.. وبعد أن فعلوا كل ذلك بالنبيِّ -أحبِّ عبادِ اللهِ إلى اللهِ- فلا غرابةَ أن يفعلوا بنا نحن الأشخاص العاديين مثلما فعلوا وأكثر.
حتى إن الحديث النبوي الشريف: “أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ”، يشير إلى أن السائرين في سبيل الله تعالى لا محالة سيتعرضون لمجموعة من الابتلاءات والمصائب، ونظرًا لأن الرسل لم ينجوا من هذا فإن الصادقين السائرين على طريقهم ومتبعيهم خطوة بخطوة سوف يُمتحنون وتحل بهم الزلازل والبلايا بقدر درجاتهم وإيمانهم، وكما حُورب الأنبياء سوف يُحاربون هم كذلك، وسيُحرم البعض من أوطانهم وبيوتهم، ويُنفى البعض الآخر من بلده، ويُسجَنُ آخرون وتُصادَرُ حرّيتهم، حتى إنه سيجري الحديث عن إعدامهم، وتُدبر المؤامرات والمكائد لاستئصالهم من الجذور.
الحق والحقائق تفقد أهميتها وقيمتها في نظر الإنسان المتكبر؛ إذ يُعرض عن الحق بالرغم من رؤيته إياه، أو يسعى إلى إلباسه لباسًا آخر من خلال مجموعة من المغالطات.
وعليه فعند النظر إلى ما يحدث يمكن القول إن متكبري عصرنا أكثر حدة وطغيانًا مقارنة بمن كانوا في العصور السابقة، لأنهم يستطيعون الكذب براحة تامة دون خجل أو حياء على الإطلاق، ويلجؤون إلى تقوية ذلك بحسب الحالة، إنهم يُعدون مؤامرات وخططًا شيطانية من أجل القضاء على من جعلوهم أعداء لهم، حتى إنني أظن أن مثل هذه الأفعال لم تخطر ولو حتى على بال أبي جهل ولا ابن أبي معيط ولا عتبة ولا شيبة ولا الوليد، فثمة سلوك مفرط يُمارَس ضد الخدمة حتى إزاء أكثر أنشطتها براءة، حتى إنه يخيّل لي أن متمردي عصر الجاهلية أنفسهم لم يعيشوا جنون العظمة بقدر مَنْ في عصرنا.
طريق الذين نذروا أنفسهم لله جل جلاله
بالرغم من كل هذا فمن المهم للغاية بالنسبة للسائرين في طريق النبي صلى الله عليه وسلم أن يثبتوا على الطريق الذي يسيرون فيه، ويواصلوا المسير دون توقف أو تردّد، يجب عليهم ألا يتوقفوا أو يضعفوا بحجّة ما يرونَه يُرتكب في حقهم ويُفعل بهم؛ لأن كل إنسان يفعل ما تستلزمه شخصيته؛ فالعقرب يلدغ، والثعبان يقرص، والورد يفوح زكيًّا، والبلبل يُغرد شجيًّا، وكلّ إناء بما فيه ينضح.. بعد إدراك هذا ووضعهِ بعين الاعتبار لا داعي للاستياء مما يفعله الآخرون.
في الحقيقة وجودُنا ونَيلُنا الحياة وخلقُنا بشرًا وتزويدُنا بمجموعة من الملكات والقابليات لطفٌ إلهي تام..
وعليه فينبغي لمتطوعي الخدمة أن يعلنوا الحرب على الجهل والفرقة والشرور فحسب؛ وليس على من ضلوا طريقهم، ولا على الأشرار ولا على المتكبرين أنفسهم، يجب أن يكون هدفهم السعي إلى القضاء على صفات الشر والسوء مثل الإلحاد والضلال والتمرد والكبر بدلًا من الانشغال بالأشرار والفجار، عليهم أن يقولوا: “تُرى كيف لنا أن نخلص هذا الكيان النزيه الخالد الذي خلقه الله في أحسن تقويم من الفسق والفجور والكبر والغرور، ونوجهه إلى هويته الأصلية، ونحقق تواصله مع جذوره الروحية والمعنوية؟”، عليهم ألّا يتخذوا موقفًا من الأشخاص، ولكن من الصفات السلبية التي فيهم فحسب، وأن يشكلوا إستراتيجيات للقضاء على تلك السلبيات لا على الأشخاص، يجب عليهم إعلان التعبئة والوحدة ضد السلبيات عبر استخدام العلم والعرفان، والاعتماد على المحبة والمودة، وإعلاء القيم الإنسانية والكونية.
إن نضال متطوعي الخدمة كله عبارة عن هذا.. يجب عليهم أن يفعلوا ما يفعلون من أجل هذا؛ فرسالتهم الحقيقية هي محاربة “الجهل والفقر والفرقة” بشكل يلائم ظروف العصر، كما ذكر الأستاذ بديع الزمان في سنوات المشروطية.. عليهم ألا يتأخروا عن فعل ذلك مهما كانت الموانع قوية، وأن يثبتوا ويصرّوا على تجاوز الموانع والحواجز وعبور بحور الدم والصديد.
إن الكبر يعني أن الإنسان المخلوق العاجز الفقير يرى نفسه أكبر من حجمه الحقيقي، أو أن ينسب إلى نفسه بعض النعم التي منَّ الله عز وجل بها عليه ويعزوها إلى نفسه.
فضلًا عن ذلك فالإنسان في عصرنا هذا بدأ يصحو على الحق والصواب، ويقدر الأنشطة الخيرية بالفعل، وعليه فلا ضرورة للقنوط والسأم والاضطراب، وعلينا أن نسعى لإيقاظ الضمائر بقدر ما نستطيع من أجل تشييد صرح القيم الإنسانية على وجه الأرض، وأن نهتم بإنشاء عالمٍ خالٍ من الصراع والنزاع تمامًا، خالٍ من الأسلحة القاتلة الفتاكة المرعبة، وبهذه الطريقة يسعون إلى إقامة بيئة من السلم والسلام تشبه تلك التي في المدن الفاضلة، ومن أجل تحقيق هذا عليهم أن يَغُزُّوا السير بعزم وإقدام دون أن يأبهوا بأي شيء قد يعطلهم، وعليهم أن يركضوا في سبيل الخير حتى تنقطع أنفاسهم مثلهم في ذلك مثل الجواد الكحيلان.