إن المشركين ما كانوا يبالون بالمعقولية فيما يعتقدون ويؤلهون. ومآربهم كانت محصورة في أهوائهم ورغباتهم والاقتداءِ بآثار آبائهم متى ما نفعهم ذلك. القرآن الكريم يستصرخ العقل في أولئك المقلدين العُمي، وكلِّ اللاهثين وراء الهيكلية الصورية الجوفاء من قَبلهم ومن بعدهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾(البقرة: 170-171)
لقد أشهر صفُّ أهل الكفر والإلحاد والشرك اللا معقول واللا منطق على الدوام ، وأفنوا أعمارهم في السجن الضيِّق للهوى ، وأسْرِ الفكر المتوارَث من الأجداد .
تنوع خطاب القرآن للمشركين
ولنا أن نستطلع هذا في الأسلوب العام للقرآن الكريم؛ فالقرآن الكريم يخاطب المشركين المعاصرين لسيدنا (صلى الله عليه وسلم) مرة بعد مرة بلسان العقل، ويوسع آفاقهم بلسان المنطق، ويحقنهم بالمعقول بقوة المحاكمة المنطقية، ويعيد عليهم صفحات من ديمومة التكرر التاريخي، ويضعضع -بسرد الأمثال- لامنطقيةَ الشرك في تلك الأيام إلى جانب الفكر الإلحادي في قابل الأيام، ويدعو إلى التعقل في كل الأمور.
إن جميع الأنبياء أدَّوا الرسالة نفسها وساروا في الطريق عينها مع مراعاة تنوع الأحوال والأوضاع، فاتبعوا نهج “العقل السماوي” ونشروا “المعقول” جميعًا.
إن سيرة الأنبياء والمرشدين الذين اتبعوهم مَشْهرٌ لعرض نماذج حية ضد كل نوع من أنواع الكفر والإلحاد والشرك، ومنبر لسرد أشد الخطب إقناعا. والقرآن الكريم يأخذ بيد تلاميذه مرة بعد مرة ليسيح بهم في تلك المشاهر، ويُسمع خدامه أجلَّ الخطب العصماء بأصدق الأصوات.
سيدنا إبراهيم أقوى أصوات فكر التوحيد
إن قصة إبراهيم (عليه السلام) التي تتكرر في القرآن الكريم مرارًا، لأنه من أقوى أصوات فكر التوحيد. فتَراه محطِّما لأصنام المشركين من قومه، أو مقوضًا لأركان فكر المشركين، أو ضاربا على أفواههم بالأقفال المصنوعة في مصنع العقل، فهم لا ينطقون، أو حاملاً إلى السماء فَهْمَهم المشركَ وتوهُّمَهم الألوهيةَ في النجوم والشمس والقمر، ليحلَّ رباط الأجسام السماوية، فتتساقط على أفهامهم المنحرفة عن الربوبية، فتخرّ أنقاضا وركاما يئطُّون تحتها، ويفتح سبلاً واسعة تُوصِلُ إلى الله تعالى للقادمين من بعدهم.
ثم يصرخ في المصرين على غير المعقول تارة أخرى: ﴿قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾(الأنبياء:54). ثم تراه قد حطم أصنامهم وقام منتصبًا وموبِّخًا منطق شركهم المنحرف الضال قائلا: ﴿أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾(الأنبياء:66-67). إنه يصرخ ويوبخ حتى يوجِفَ أرواح المشركين من قومه والمشركين من بعدهم جميعًا.
إن القرآن الكريم يأخذ بيد تلاميذه مرة بعد مرة ليسيح بهم في مشاهر الأنبياء، ويُسمع خدامه أجلَّ الخطب العصماء بأصدق الأصوات.
ومثلما كان إبراهيم (عليه السلام)، كان الأنبياء العظام: نوح وهود وصالح وشعيب وموسى… وكلهم أجمعون صلى الله عليهم وسلم، أدَّوا الرسالة نفسها وساروا في الطريق بعينه مع تنوع اللون والنمط حسب تنوع الأحوال والأوضاع، فاتبعوا نهج “العقل السماوي” ونشروا “المعقول” جميعًا. وعلى النقيض كان صفُّ أهل الكفر والإلحاد والشرك الذين أفنوا أعمارهم في السجن الضيِّق للهوى والرغبات، وأسْرِ الفهم والفكر المتوارَث من الأجداد، فأهدروها في مد الشعور المنحرف والفكر الضال وجزرِهما وأشهروا اللامنطق على الدوام.
*********
المصدر: فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، طـ2، ٢٠١2، صـ69.
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.