شاهد النبي ﷺ بعضَ المذنبين ليلة المعراج وما يتجرّعونه من عذاب. وكنا نحن نشاهد المجتمع في ذلك الوقت على مثل هذه الصورة، حيث غَرِقَت أجيال في مستنقع الخمر والقمار والزنا والرشوة والاحتكار والربا. فراغٍ معنويٍّ كبير، وأفكار مظلمةٍ قاتمة. وقد تمّت التجهيزات اللازمة لُيصبِحوا ضحايا فوضى وإرهاب، ثم دُعُوا بعد ذلك إلى أن يكونوا فضلاء وهم الذين دُفعوا إلى السفاهة دفعًا؛ فأشبهت حالتهم حالةَ ذلك الذي أُلقي به في البحر بعد أن رُبطت يده وذراعه، ثم طُلب منه فيما بعد أن يحذرَ البللَ.
إن تَرْكَ القراءة يعني الخيانة؛ وكيف يمكن بعث الطمأنينة وإنقاذ الأجيال من التيارات الهدّامة ونحن نتخبّط في الفضاء.
مؤامرات مُبيتة بليل:
كانوا يطلبون من جيل الشباب أن يكون فاضلًا، محبًّا لوطنه، حاميًا لأمته، رافعًا من شأن لواء بلده. وكما لا يمكنك الطلب ممن أُلقي به في البحر ألا يبتلّ، كذلك لا يمكنك الرجاء من هؤلاء أن يكونوا فضلاء. وبعد ذلك نشأ مفهومٌ جديدٌ؛ لا يبدو منه أنه يخدم أيّ فكر، مفهومٌ يفضّل فتح جميع قنوات وحواجز الشهوة على مصراعيها لإنقاذ الشبيبة من الفوضى. أجل، كانوا ينشدون من وراء هذه المفاهيم الغريبة إنقاذ الشباب من هواجس ضارة ويجعلونهم لا يفكرون في شيء آخر سوى إشباع شهواتهم، بيد أن الفوضى الحالية نشأت أيضًا وترعرَعت في مثل هذه البيئة، إلى أن صارت وحشًا كاسِرًا.
نحن اليوم أبعد ما نكون عن القراءة، والنتائج المخزية لهذه الحالة ظاهرة عيانًا بيانًا، لقد أصبحنا سطحيين في التفكير، وحُرِمنا من تقديم إبداعات جديدة.
تداعيات البعد عن القراءة:
وقعت الأجيال تحت وطأة هذه العوامل الداخلية والخارجية وابتعدت يومًا بعد يوم عن القراءة والتفكير، وكأنها أصيبت بالهذيان، وفي اعتقادي أن هذا الابتعاد وذلك الهذيان ما زال مستمرًّا حتى يومنا هذا، ومن ناحية أخرى كانت محاولة إقحام الكلمات التي لا أصل لها بلغتنا بمثابة ضربة أخرى على فَهْم ما يُقرأ، فأصبحنا لا نفقه شيئًا من لغتهم، والعكس صحيح، وأصبح رجال الجيل الواحد لا يتفاهمون مع بعضهم البعض إلا بصعوبة بالغة، فإن لم نستأصل شأفةَ هذه المشكلة لدَمّرت حياتَنا الفكرية بما لا يقلّ عن غيرها من المشاكل.
نحن في أمسّ الحاجة قبل الجميع إلى الاستجابة للأمر القرآني الأول “اقرأ”.
أجل، نحن اليوم أبعد ما نكون عن القراءة، والنتائج المخزية لهذه الحالة ظاهرة عيانًا بيانًا، لقد أصبحنا سطحيين في التفكير، وحُرِمنا من تقديم إبداعات جديدة، إننا لَسْنَا لا نشتهي القراءة فقط، بل إن معظمنا في الوقت ذاته ينفرُ منها، حتى إن بعضًا من قرّائنا يقرأ قراءةً سطحية، جعلَتْنا عاجزين عن إنتاج أيّ جديد في الفكر.
وإنّكَ لترى عقولَ وأرواح الأمس المظلمة التي تعلمت منا القراءة وغيرَها من الفضائل قد أضحت اليوم تقرأ وتفهم وتفكّر، تجدها في البيت والسيارة وموقف الحافلات تفتح الكتاب الذي تحمله في حقيبتها وتستغلّ وقتها أفضل استغلال على حسب معاييرها. وإذا ما نظرنا إلى المسألة في إطار دائرتنا الضيقة لألفَينا السابقين الذين سنّوا الطريق أمامنا يقول أحدهم: إنه قد قرأ بعض المؤلفات التي حرّرها ثمانين أو مائة مرّة، وهذه وصِيّة فعلية لنا بضرورة القراءة.
على من يتبعون الطريق أن يقرؤوا، ويتزوّدوا بثقافة عصرهم، ويمحّصوا المعلومات التي اكتسبوها من قبل، ويحملوا هذه الخبرة الثقافية إلى المحتاجين؛ حتى يكون لكلامهم صدًى وقبولًا.
وبعدما كان يقرأ بنفسه هذا القدر من مؤلفاته التي يمليها على طلابه ارتجالًا من نتاج قريحته يتابع طلابه قائلًا لهم: اقرؤوا، وبذلك يكون قد وضع يده على أهم وأخطر داء في عصرنا، وأرشدنا إلى سبيل العلاج منه.
إن تَرْكَ القراءة يعني الخيانة؛ وكيف يمكن بعث الطمأنينة وإنقاذ الأجيال من التيارات الهدّامة ونحن نتخبّط في الفضاء، رغم أن هذه مهمتنا الأولى وغاية حياتنا المنشودة. إذًا نحن في أمسّ الحاجة قبل الجميع إلى الاستجابة للأمر القرآني الأول “اقرأ”.
————————-
المصدر: محمد فتح الله كولن، الاستقامة في العمل والدعوة، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 129-131.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.