كان اتفاق الأخوة مؤسّسًا على العاطفة، وجاء الوقتُ الذي لم يعُدْ فيه هذا المفهوم كافيًا، فلقد تقدّمَ المسلمون على الصعيد الفكري والعاطفي. لقد فكّروا وبحثوا وقرؤوا فتقدموا، وأدركوا أيَّ الأفكار المضادة للإسلام، أو ظنّ معظمهم أنهم أدركوا؛ فقد كان يجمعهم الفكر والعمل والدفاع المشترك، فظلوا لفترةٍ طويلة تحت السقف نفسه يُحافِظون على هذه القواسم المشتركة، وكما اجتمع الملحدون والمنكرون لله ولرسوله تحت سقفٍ واحد كذلك فقد اجتمع المسلمون تحت سقفٍ واحدٍ آخر، ومَن يدري فلربما توفرت لهم آنذاك فرصةٌ كافيةٌ للتمييز بين الأسود والأبيض وبين الغثّ والسمين.
الاتحاد والائتلاف كان بحاجةٍ – إلى جانب الرابطة العاطفية- إلى أسسٍ فكريّةٍ ومنطقيّةٍ.
لقد شاهدوا كلّ شيء وأدركوه جيدًا، وبينما كانت قلوبهم وعقولهم تسترجِعُ عهد الحضارةِ في المدينة المنورّة على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلّم كي تَسود الحقائق الإلهية التي جاء بها كانت عقول بعضهم الآخر وقلوبهم بعيدةً عنهم وفي وادٍ آخر، وهكذا بدأت روابط هذا الاتفاق بالتقطّع، وتبين أن المشاعر والعواطف متباينة. وبعد هذه الفترة ظهر أن الروابط العاطفية ليستْ كافيةً، فاتجه كلّ فريقٍ إلى جهة معينة وتفرقت بهم السبل.
أسس يجب مراعاتها:
أما من جهتنا فإننا نشاهد الصحوة الإسلامية في تركيا وفي البلدان الإسلامية الأخرى، وإننا نرى من المفيد أن نذكّر بضرورة عدم تناسي الأسس التي يجب مراعاتها حتى وإن كانت لدينا قناعةٌ بأن كلّ إنسانٍ يقوم بما عليه ويهيّئُ ما يمكن تهيئته لمستقبل الأمة.
أولًا: يجب على كلّ سالكٍ طريق الحقّ التخلّى عن محاولة قسرِ الآخرين على التفكير مثله؛ فكلّ خدمةٍ في طريق الحق نُصفّقُ لها ونُثْنِي عليها، فكما يتقبّل أرباب المهن المختلفة وأصحاب الفنون المتنوّعة بعضُهم البعضَ الآخر ويتداولون ويتبادلون ثمار سعيهم ويتعاونون في سبيل هدفٍ مشترك، كذلك على أصحاب المشارب والأذواق المختلفة إبداء الفهمِ نفسِهِ والمرونة نفسها، والابتعاد عن التصلّب في فرض طرقٍ معينة ما دام الهدف المنشود مشتركًا.
يجب على كلّ سالكٍ طريق الحقّ التخلّى عن محاولة قسرِ الآخرين على التفكير مثله؛ فكلّ خدمةٍ في طريق الحق نُصفّقُ لها ونُثْنِي عليها.
لذا فما يجب عمله هو القيام بالثناء على كلّ مَنْ يقدّم خدمةً في ساحته، وقبول كل مَنْ يقول: “إن كل من يذكر الله تعالى ويسعى من أجله ويبجّل رسولنا صلى الله عليه وسلم فهو أخي…”، ولكي لا تزدرئنا الرأسمالية أو الشيوعية، ولكي لا نقع في بئر الإلحاد علينا أن نضع اتفاقًا ما ولو كان صوريًّا، فالإنجليزيّ حقق وحدة “الأنجلوسكسون والغال” لكي يؤمّن مستقبله، مع أنهما -“الأنجلوسكسون والغال”- يكره أحدهما الآخر وينفر منه نفورًا كبيرًا، ومع ذلك فلم يظهر بينهما أمام العيان أيّ خلاف/ نـزاع حتى اليوم؛ لأنهما جلسا على طاولةٍ واحدة وتفاوضا واستعرضا القواسم المشتركة ونقاط الخلاف، وأخذا بنظر الاعتبار مستقبلَ إنكلترا ومصيرها، فتنازلَ كلٌّ منهما عن بعض الأمور.
لقد عقدنا العزم على إيصال كنـزٍ نفيس إلى مكانٍ معيّن، فإن كان علينا مبارزة بعضُنا البعضَ، فلنتبارز بعد إيصالنا ذلك الكنـز وتلك الأمانة إلى أصحابها.
ما يعنينا في دعوتنا هو أننا جميعًا باختلاف مشاربنا وأذواقنا نؤْمن بربٍّ واحد، ونؤمن بأنّ رسولَنا واحد، وكتابَنا واحد، وقبلتَنا واحدة، وطريقَنا واحد، إذن نستطيع أن نقيمَ وحدَتَنا على هذه الأسس المنطقية السليمة، وليس على أساسٍ عاطفي مجرّد، فهذه الأسس القوية المشتركة فيما بيننا تقتضي وتوجب علينا الوحدة فيما بيننا، أما الزعم بخلاف هذا فليس إلّا همسات النفس الأمّارة ومعاذيرها.
لقد عقدنا العزم على إيصال كنـزٍ نفيس إلى مكانٍ معيّن، فإن كان علينا مبارزة بعضُنا البعضَ، فلنتبارز بعد إيصالنا ذلك الكنـز وتلك الأمانة إلى أصحابها. وعلينا أوّلًا التفكير في حاضر هذه الأمة ومستقبلها فلا ندعهما نهبًا للملحدين والفسقة.
————–
المصدر: محمد فتح الله كولن، الاستقامة في العمل والدعوة، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، صـ108 -110.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.