استطاع هذا القرآن أن يوصل صوته إلى أبعد زاوية من زوايا الدنيا في قفزة واحدة، وأن يسكت كل أصوات الشؤم، وأثار في كل فكر يبتغي الحق ولا يملك فكرا أو حكما مسبقا عواطفَ جياشة كأنها أصوات خرير الكوثر، وأطفأ في القلوب التي فتحها نيران الهجر، وفجّر في كل روح أمل الوصال والشوق إليه. الطبائـع الباردة تحرَّك بها نبضُ الحرارة، أما القلوب المتولهة برغبة الأبدية والخلود فقد أنست به واطمأنت إليه.
إن أنفاس القرآن التي نشعر بها في أعماق قلوبنا تحيينا، وإن ضياءه الذي يغمر الأشياء يجعل كل موجود برهانا للحق تعالى.
نضارة القرآن
وإذا كان هناك من بقي جديدا ونضر الألوان على الدوام في هذه الدنيا الفانية التي يَقدُم فيها كل جديد ويبلى فيها كل نضر، ويبهت فيها كل لون، فهو القرآن. فهو الكتاب الوحيد الذي استطاع أن يقف منذ نـزوله في وجه جميع الأعاصير والعواصف التي هبت، والأمطار والثلوج التي سقطت، وفي وجه جميع الظروف القاسـية التي ظهرت وبدت أمامه. واستطاع أن يحافظ على أصله ككتاب سماوي وحيد دون تغيير أو تحريف. لـذا فما أن يرتفع صوت القرآن من حنجرة قارئ حتى نشعر وكأنه نـزل الآن من السماء وكأننا مدعوون إلى وليمة إلهية آتية من الجنة، وعندما ينثر اللآلئ تشعر القلوب المؤمنة أنها قد سَمَتْ واستغنت عن جميع ثروات الدنيا. القرآن قلادة بيان منظومة من الكلام الإلهي، وفيض من العلم الذي يشكل الحدود النهائية للإدراك البشري، وخارطة لكل الوجود مرسـومة ومزينة ومحاكة بالحرير اللاهوتي. عندما يُسمَع صوتُه في أي بقعة يبدو كل كلام وكل تعبير آخر نوعا من الضوضاء لا غير. وفي البقاع التي ترتفع فيها أعلامه يغمر النور قلوب المؤمنين، وتنـزل الحجارة على رؤوس الشياطين، ويعيش الربانيون هناك أعيادا دائمة.
إن العقل الذي تنور بنور القرآن تتحول الشمس تجاهه إلى مجرد شمعة.
سعادة أبدية وأنفاس ملائكية
ربط الله تعالى رب العالمين ذو القوة المتين سـعادة الدارين بإرشـاده وتوجيهه. فلا يمكن الوصول إلى الهدف من دونه، ومن يستغن عن إرشاده ووصاياه ولا يلتجئ إليه ضـائع في الطرق وتائه. هو آخـر وأكمل كلام يهدي من اتبعه وسـار في إثره، ويوصله إلى الغاية والهدف دون خطأ أو انحراف. ومع أنه يُتلى بكل سهولة صباح مساء فلا يُستطاع الإتيان بمثله. ومن يستمع إليه بأعماقه يشعر أنـه قد سمع كل ما يجب سماعه، ومن ذاق هذه اللذة يصبح مطمح النظر الإلهي، وأصوات هؤلاء تتداخل على الدوام مع أنفاس الملائكة.
قبل نزول القرآن
حتى نـزوله وتشريفه للأرض كان كل نبي يشـعل مشعل الهداية التي يحملها من مصدر نـوره وضيائه، ويحول الصحارى القاحلة حوله بقطرات قليلة منه إلى جنان وارفة الظلال. بل إن العصور المظلمة التي جال فيها ظِلُّه أصبحت عصورا ذهبية. أما العصور التي تعرفت به عن قرب وعاشته فقد تحولت إلى ما يشبه الجنة. ومن وهب نفسه له سما إلى مرتبة الملائكة، وأصبح كل ما في الكون من أحياء وجماد أليفا عنده.
مَنْ فهم القرآن حق الفهم تصبح البحار الواسعة كقطرة ماء أمام ما يرد إلى صدره من إلهام.
مَنْ فهم القرآن حق الفهم تصبح البحار الواسعة كقطرة ماء أمام ما يرد إلى صدره من إلهام. والعقل الذي تنور بنوره تتحول الشمس تجاهه إلى مجرد شمعة. أنفاسه التي نشعر بها في أعماق قلوبنا تحيينا، وضياؤه الذي يغمر الأشياء يجعل كل موجود برهانا للحق تعالى. من يصله صوته -وإن كان في أبعد أرض وأخفاها- دبت فيه الحياة وكأنه سمع صور إسرافيل. والقلوب التي تستمع لصوته وبلغته الخاصة بـه يتوثب حركة ويحيا وكأنه يستمع إلى نغمات من جبريل، ﴿هَـذَا بَصَائِرُ للنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (الجاثية: 2). أجل هو بصائر ورحمة للذين لم تمت قلوبهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: فتح الله كولن، ترانيم روح وأشجان قلب، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، الطبعة الرابعة، ٢٠١0، صـ16 وما بعدها.
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر .