جدير أن نلفت النظر إلى خطأ وقعنا فيه –كأمة- دائما؛ وهو أننا -بدلاً عن جعل القديم أساسا متينا ليُقام عليه الجديد، وتطويرِ القديم بمعطيات الجديد- فَصَلناهما في أكثر الأحوال إلى شريحتين ربطناهما بحقبتين منفصلتين؛ فأحيانا استعْدَينا بعضهما على بعض، وأحيانا أخرى عارضنا بينهما، فأدينا إلى حصول معضلات في الأسس؛ فإما قلنا: “الجديدُ يُشم عطره ثم يُرمَى في النفايات، والقديمُ يفوح كالمسك والعنبر كلما رججتَه يتضوع”، فأفرطنا في “وارداتِ” حقبة من الزمان… أو قلنا: “لا نفع في مكتسباتٍ عتيقة لزمان ولَّى؛ الخيرُ في العالم الزاهي للجديد”، وأهملنا تمامًا ذلك الجانبَ للزمان، فأغفلنا مفهوم “الزمان الذاتي”، وتغافَلْنا عن البعد العالمي الكوني.
إن حضارتنا الممتدةَ عبر العصور هي حضارة الفقه وأصول الفقه المتفسحةُ للجميع بتمحورها حول الفكر والعقل والمنطق والمحاكمة.
والحال أننا ملزمون بإعداد البيئة الطيبة لزمانٍ ثقافي جديد يُطوِّر حياتنا الفكرية، بتفسيرِ ثقافتنا تفسيرًا معمَّقا، وتقويمِها تقويما دقيقا، -ليس من أجل منطقتنا الجغرافية وحدها- بل من أجلِ تأسيسِ جسر متين ودائم بيننا وبين العالم المتحضر. بعبارة أخرى: يتحتم علينا -من أجل بناءِ فهمٍ ثقافي أمتن وأسلم وأقوم وأبقى لأمتنا- ألا نفدي قِيَمَ ماضينا وحاضرِنا ومستقبلنا بعضَها لبعض مع مراعاة الأولوية للمستقبل، وأن نوقر ونصون الديمومة والتوسع بنفس الدرجة.. والحقيقة أن الزمان الثقافي غير مرتبط بفكرة التواجد قبلُ أو بعدُ، على خلاف مفهوم الزمان المعروف لدينا. وأرى من الأنسب أن نسميه بـ”ما فوق الزمان”. بل الأحرى أن ننظر إليه مستقلا عن الزمان ومتعاليا عنه. والواقع أن ديمومة الثقافة بذاتها منوطة باستقلالها. لكن من البدهي وجودُ إطار من المرجعيات تنظِّم بناءها الذاتي والمستقل تماما، وتُشكِّل كيفية علاقتها بالجهات المختلفة. فمن هذه الوجهة وفي داخل إطار كهذا؛ يمكن أن نقول: إن الثقافة هي عبارة عن مجموع المفاهيم المختلفة وسبل التفكير المتنوعة، وأوجهِ الرؤية المتعددة، “والتصوراتِ” الفنية والقيمِ الأخلاقية المرتبطة كلٌّ منها بتفسيرٍ مختلف.
لن تجد في أمة أخرى مثلَ علم أصول الفقه المستندِ إلى القرآن والسنة واجتهاداتِ السلفِ الصالح وتحقيقاتهم.
وثَمّ أسس راسخة نجد أنفسنا مُلزَمين بأن نربط كلَّ مضمونٍ ومفهوم وأسلوبٍ فكريٍ وتفسير ومقاربة، بتلك الأسس. حتى إن الثقافة بألوانها المختلفة تحوم وتدور في محيطها، وتنهل من مناهلها، وتتغذى بغذائها، وتنمو بها، ثم تتحول بفضلها إلى حال فوق الزمان والمكان.
وهذه الأسس -باختصارٍ- هي الكتاب والسنة (وسنُذكِّر بهما بإشارات سريعة لاحقًا)، وبالإضافة إلى هذين العمادين -وفي إطار مرجعيتهما- التفسيرُ والحديث وأصول التفسير وأصول الحديث والفقه وأصول الفقه… ونخص بالذكر الفقه وأصول الفقه فهما -من حيث إنهما ثمارُ مساعٍ حثيثة وكدحٍ مضنٍ، ومن حيث إنهما من غير مثيل أو شبيه لهما في التاريخ- مَنبعان لا ينضبان ومصدران قابلان للتوسع والثراء الرحيب بحيث إن الشعوب التي تمتلك هذين المصدرين، تُعَدُّ مالكة لأهم الأشياء الحيوية. إن كل حضارة تَفخر بقيمٍ تخصها بالذات… فالفقهُ وأصول الفقه من أهم وأبرز قيم حضارتنا نحن. وأحسب أننا لو كنا نحتاج إلى أن نَصِف حضارتنا -باعتبار ماضينا- بصفة، لكان من الأنسب أن نصفها بـ”حضارةِ الفقه وأصول الفقه”… حضارة الفقه وأصول الفقه المنفتحة أبوابُـها على مصاريعها للفكر والحكمة والفلسفة. ولئن تميزت حضارة اليونان والإغريق بالفلسفة، وحضارة بابل وحران بالعرفان (Gnostisizm)، وحضارة أوروبا الحاضرة بالعلم والتكنولوجيا، فإن حضارتنا الممتدةَ عبر العصور هي حضارة الفقه وأصول الفقه المتفسحةُ للجميع بتمحورها حول الفكر والعقل والمنطق والمحاكمة. إن الجهود حول أصول الفقه عندنا من أهم المجهودات غير المسبوقة لبناء وتطويرِ نظام حقوقي متكامل وعلمٍ قانوني لا يشوبه نقص، وتوسيعه لاستيعاب كل العصور. فهذا العلم بالإضافة إلى سَبْقه منفتحٌ ليكون مصدرًا للحضارات والثقافات الأخرى، باعتباره مؤثرًا في تشكيل العلوم.
إننا ملزمون بإعداد البيئة الطيبة لزمانٍ ثقافي جديد يُطوِّر حياتنا الفكرية، بتفسيرِ ثقافتنا تفسيرًا معمَّقا، وتقويمِها تقويما دقيقا، -ليس من أجل منطقتنا الجغرافية وحدها- بل من أجلِ تأسيسِ جسر متين ودائم بيننا وبين العالم المتحضر
وعلى مر الزمان امتلكت مجتمعات مختلفة نُظُما قانونية أو حقوقية، كالرومان والصينيين والهنود واليونانيين. لكن لا اليونانيون في ألواحهم، ولا الرومانيون في قوانينِ كاسيوس، ولا العالَم المعاصر في متونه القانونية، استطاعوا أن يربطوها بأصول أو قواعد مستقرة كما في نظام الفقه الإسلامي. فلذلك لن تجد في أمة أخرى مثلَ هذا العلم المستندِ إلى القرآن والسنة واجتهاداتِ السلفِ الصالح وتحقيقاتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، طـ2، ٢٠١2، صـ78.
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر .