إن الوظيفة الأصلية لهؤلاء الأنبياء القُدسِيِّين، هي إنقاذ البشر من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الإيمان، وتحفيزُ الأرواح لتصغي القلوبُ إلى الحق تعالى، وكشفُ ما أمام ستار الأشياء وما وراءها ، وإراءتُها على حقيقتها حتى تزول الشبهات والشكوك في الأذهان، ونشرُ الأنوار على وجه الوجود ليُقرَأ ككتابٍ وليُطَّلَع عليه كمَشهر ومَعرض وليفسَّر كلوحة فنية بارعة ثم يترجمَ حسب أفق إدراك العصر، وجَعْلُ هذه المسيرة الفانية مَدْرَجًا إلى العوالم الباقية وجِسرًا إليها ومزرعة لها وسُوقا لشرائها.
إن الأنبياء يقرون برجوع الأمر كله إلى الله، ويخضعون لحكمه وقضائه بألف نَفْس، لا بنَفْس واحدة.
ففي معرض البيان لطَرَف من هذه الأمور يقول الله تعالى في القرآن لسيد السادات (صلى الله عليه وسلم) :﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (إبراهيم:1) ويُعرِّفنا بإطار من الأُطُر لرسالة النبوة ودورها. وليس سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) وحيدًا في هذا الأمر؛ فهو وظيفة كل الأنبياء من لدن أبينا آدم إلى سيدنا موسى، ومنه إلى سيدنا عيسى عليهم السلام. وانظر كيف يَربط القرآنُ الكريم الأمرَ في السورة نفسها بالنبي موسى (عليه السلام) أيضًا قائلا: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ﴾(إبراهيم:5).
بشر ولكن … !
ومع أن ممثلي هذه الرسالة السامية -التي تتطلب شعورًا بالغا بالمسؤولية وإرادةً مكينة وشخصيةً متينة-… مع أن هؤلاء بشر من أمثالنا… لكنهم بشر يختلفون ويتميزون عن غيرهم في قوة عزمهم وإيمانهم وحِدّة استقامتهم، وعلو أمانتهم، وغاية شعورهم بوظيفتهم، وشدة حرصهم على رضا الحق تعالى، وثبات مَواقفهم وإرادَتِهم حيال المعاصي أبدًا، وولعهم بدعوة الناس إلى الصراط المستقيم وكأنها غريزة فيهم؛ فلا يقر قرارهم ولا يعرفون سكونا، إلا “الإرشاد”… “الإرشاد”! فيؤدون وظائفهم في اشتياق غامر، لا يعرفون كللاً أو مللاً، وإذ يوفون بوظائفهم بحساسية مرهفة، لا يتدخلون في شأن الربوبية، فلا ينشغلون بحساب النتائج قط، ولا يرجون إلا عناية الرب جل وعلا. يُرجعون الهداية والضلالة إلى الله تعالى -مع قبولِ وجود أثرٍ للإرادة في مستوى “الشرط العادي”-، ويعترفون برجوع الأمر إليه كله، ويخضعون لحكمه وقضائه بألف نَفْس، لا بنَفْس واحدة، وكما يرعون الأوامر الشرعية والتنـزيلية أدقَّ رعايةٍ، كذلك يتحرون الحِفاظ على الأوامر التكوينية بأعظم العناية. وإن لهم لوقفات وطيدة ومكينة حيال القرآن والكائنات، وأمام مخاطَبِيهم وربِّهم… وهذه هي وقفة “أولي العزم” والمصطفَيْنَ.
الأنبياء بشر أمثالنا… لكنهم يتميزون عن غيرهم بقوة عزمهم وإيمانهم وحِدّة استقامتهم، وعلو أمانتهم، وشدة حرصهم على رضا الحق تعالى.
همة الأنبياء
وإن همم هؤلاء المصطفَين لعالية علوًا بحيث لا هم يكتفون بما يحرِزون، ولا ييأسون أو يرتبكون إذا لم يحصلوا على ما يريدون. يعرفون أن التوفيق من الله، ويُرجعون إخفاقاتهم إلى أنفسهم. يقفون منتصبين في ثبات ويأبون أن ينهاروا. فإن حصلتْ لهم رجَّة من حيث لا يشعرون، استعادوا الثبات من فورهم ثم مضوا لسبيلهم. لا يفرحون بما ربحوا من حظوظ الدنيا فلا ينشدِهون بها، ولا يغتمون أو يتكدرون لفرصة أضاعوها.. فيعرفون أن الحظوظ كلها من الحق سبحانه، فتصيبُهم رعشة ورجفة خشيةَ أن يتعرضوا للابتلاء من وجه، ومن وجهة أخرى تَرى ظهورَهم منحنية خشوعا ومهابة منه تعالى، لعلمهم أن كل الألطاف والإحسانات منه تعالى… فللوقفة السليمة السديدة لهؤلاء المصطفَين الأخيار، لن يتخلى الله عنهم، بل يؤيدهم بنصره في الدنيا ويشرفهم بوراثة الأرض، ويورثهم “جنة الفردوس” في الآخرة. واقرأ إن شئت شاهدًا: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾(الأنبياء:105) والمعنى أن الأرض كلها ستصطبغ بصبغتهم… ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(المؤمنون:10-11)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، الطبعة الثانية، ٢٠١2، ص: 117
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.