ومن أجل أداء وظيفة الإرشاد بحقها ثمة خصيصة ثالثة: كسب ثقة المخاطب، وتعلّق قلبُهُ وفكره بكم، حتى إن وازن بينكم وبين كل محبيه رجحت كفَّتُكُم؛ لأن علاقتكم به لله ليس إلّا، وبما أن حبَّكم له لله فسيعمل هذا الحبُّ تأثيرَه في قلبه، ويحل هذا الحب والاحترام لكم محلَّ الحبِّ القائم على وشائج أخري. بل وسيرجحه لدرجة أن أعباءَ التكاليف التي يتحمّلها وهو معكم قد ترجح – لذةً ومتعةً- جانبَ القرابة، بل يجب أن يُصْبِحَ كلُّ أنواع المخاطر المحتمل حدوثها في سبيل الهدف الذي تقدمون على الموت في سبيله وكل صنوف المعاناة المحتملة في هذا السبيل أحبَّ إليه من راحة الحياة السابقة ودعتها”.
اكسبوا ثقة المخاطب، ودعوا قلبُهُ وفكره يتعلق بكم، حتى إن وازن بينكم وبين كل محبيه رجحت كفَّتُكُم.
المُعَلِّمُ الأوَّلُ نفذ إلى قلوبهم
إليكم مثالاُ واقعياً: كان “عتبة بن الوليد” من أغنى أغنياء مكة، ومن ألدِّ أعداء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولذلك يُقالُ له “أشقى القوم”، كان على رأس معظم الفتن، وكل الأماكن المجاهرة بمعصية الله تبارك وتعالى، ورغم ذلك ينشأ في بيته رجلٌ سعيد الحظِّ والطالع؛ ابنه “حذيفة”رضي الله عنه، لكن لا شبَهَ بين الابن وأبيه، صحبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ورفض كل العروض الدنيوية الساحرة التي أغراه بها أبوه ليثنيه عن إتباعه الإسلام؛ حيث كانت عقيدته وقناعته سليمةً بما تلقَّاه من دروس على يد المعلم والمرشد العظيم صلوات ربي وسلامه عليه، هل تذكرون ماذا قال سيد الكونين صلى الله عليه وسلم عندما عرض عليه هذا العرض، قال: “وَالله لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ”(ابن هشام: السيرة النبوية: 1/266)، فلقد أحدث قوله هذا تأثيرًا في القلوب والضمائر، وتمكّن منها حتى كان هذا ديدن الصحابة عند جوابهم على مثل هذا العرض، لقد نَفَذَ المُعَلِّمُ الأوَّلُ إلى قلوبهم وتبوَّأَ المكان الأعلى فيها حتى إن أغلى الناس لديهم (كالأبوين والإخوة والأقرباء) لا تكون لأحكامِهِم قيمةٌ، مقارنةً بحكمه، صلى الله عليه وسلم، ولا يبقى عزيزًا إلّا هو صلى الله عليه وسلم.
حديثاً.. لم يتغيّر الكثير بالنسبة للمرشد والمخاطب، ولا بدّ للمرشدين والمبلّغين في النفاذ إلى القلوب، وإلّا ستظلّ القضايا معلقةً في الهواء ولن تحظى بحسن القبول.
الصدق والثبات منجاة
إنها مسألة النفاذ إلى الأرواح، واستيطان القلوب، وعلى كلٍّ منا تذكر: إن لم يستطع سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يحبّب نفسه إلى أصحابه لهذه الدرجة أكان من الممكن أتباعه والمشاركة في غزوة الكبري. وكانت الظروف ضدهم، وفي الجبهة الأخرى آباؤهم وإخوانهم وأعمامهم وأبناؤهم؟. لقد انصاعوا للأمر الذي جاءهم من المقام الأعلى، وعلِموا أنّ الموت في سبيل الحق هو فضلٌ من الله تعالى، ومحضُ اجتباء.
وأحيانًا كان صلى الله عليه وسلم ينبِّهُهم، وينفث في أرواحهم أن يكون هو أحبّ الناس إليهم. فمثلًا تعامل صلى الله عليه وسلم بحزمٍ وجلال مع “كعب بن مالك”الذي تخلّف عن غزوة تبوك، وقال له: “مَا خَلَّفَكَ، أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ”، فَقال: بَلَى، إِنِّي وَالله لَو جَلَسْتُ عِنْدَ غَيرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، وَلَكِنِّي وَالله لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليَومَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ، تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ الله، لَا وَالله، مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَالله مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى، وَلَا أَيسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: “أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ”(صحيح البخاري، المغازي، 82؛ صحيح مسلم، التوبة، 9)، وهكذا عُفي عنه لصدق حديثه وثباته على باب الحق.
——————-
المصدر: محمد فتح الله كولن، الاستقامة في العمل والدعوة، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 23-25.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.