ما السبيل إلى تماسك شدّنا المعنوي المتراخي، والتوجه به مرة أخرى إلى غايتنا المثالية؟
إن الشدّ المعنوي عنصر مهمٌّ جدًّا لأيّ مؤمن، ويعني الإقدام على الخير والإحجام عن الشر، وعلى ذلك فهو -من جهةٍ- يعني: تفعيل السبل الخاصة بالخدمة، وتشكيلَ آلية معينة عاملة على الدوام، ومن جهة أخرى يُقصد به: مقاومة المعاصي وجبهات التخريب بعزمٍ وثبات وإصرار.
أو قُلْ: هو الانقياد إلى الله ورسوله والتمسك بما جاء به الرسول، والفرار من الكفر والكفران والكذب كالفرار من الأسد.
ويوضح هذه المسألةَ هذا الحديثُ الشريف الذي يرويه سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه: “ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ”[1].
فأنت ستصبح عاشقًا والله ورسوله هما المعشوقان، ولن تحبَّ الناسَ إلّا للهِ، وهذه هي الوجهة الإيجابية للمسألة، أما وجهتُها السلبية فهي ضرورةُ اتخاذ موقفٍ معيَّنٍ ضدَّ ما يوصل إلى الكفر والكفران.
أسباب ارتخاء المعنويات
أجل، على المؤمن الحقيقي أن يكون -بقدر حبّه للإيمان- ذا شدّ معنوي وعزم أكيد على عدم سلوك طريق الضلالة حتى يحافظ على ذاتيّته، غير أن المحافظة على الشد المعنوي أصعب من كسبه ونيله، من أجل ذلك كان الثبات والعزم شرطين أساسين في هذا الموضوع.
لو هناك من يسعى في سبيل دعوة الحق، ثم فرّ من الخِدمة بعد ذلك مختلقًا المعاذير عند كل دعوة له فهذا يعني أن ثمة ارتخاءً قد طرأ على شَدِّهِ المعنوي
قد يتراخى الشدّ المعنوي أحيانًا بالأنس والألفة به والاعتياد عليه، وقد يدخل في النفس أحيانًا بعض الصفات الذميمة مثل الأنانية والحرص والطمع وحب المنصب والسكون إلى الراحة والدعة، التي تؤدّي إلى انطفاء جذوة الحبّ والشوق في الخدمة وفساد الروح وشلل الإرادة.
فلو أن هناك من يسعى سعيًا حثيثًا في سبيل دعوة الحق، ولا يأبَهُ بليل أو نهار، ثم فرّ من الخِدمة بعد ذلك مختلقًا المعاذير عند كل دعوة له فهذا يعني أن ثمة ارتخاءً قد طرأ على شَدِّهِ المعنوي وانحراف نحو الفساد والانحطاط، بيد أنه لا يمكن تحقق مثل هذه المهمّة العظيمة التي تتطلّب شدًّا معنويًّا قويًّا على أيدي أناسٍ فقدوا شدّهم المعنوي.
نماذج معنوية مشرفة
إن المؤمنين الذين اتخذوا من الإيمان أجنحةً يُحلّقون بها نحو الآفاق هم في غاية الحَذَرِ إزاء العمل والشدّ المعنوي وغيره من الأمور، وكثيرٌ منهم حريٌّ بنا أن نُقَبِّل جباهَهم لما يقدّمونه من شدٍّ معنويٍّ يُشكّل مثالًا لأصدقائهم، ولا يمكنني أن أنسى أحدهم عندما قلت له ذات يوم: “لا تبرحْ بيتك ثلاثَ ليالٍ، وأنجز المهمة التي كلفتُك بها، فردّ علي قائلًا: أستاذي، أنا لا أستطيع أن أبيتَ في منزلي منذ آخر عملٍ عزمتُ على القيام به من أجل الخدمة”.
وهكذا لا بد من المحافظة على بقاء الشدّ المعنويّ مشدودًا لا يتراخى، فبالشدّ المعنويِّ يمكننا الوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأخيار.
إن الأطباء على سبيل المثال يوصوننا ببعض الأمور لمقاومة بعض الأمراض، ويطلبون منا اتباع هذه التوصياتِ دون اعتراضٍ أو نقاشٍ، وعلى ذلك نُحْقَنُ بالحُقَنِ ونتناولُ الأقراصَ التي كتبوها لنا وإن كنّا كارهين لها، وهكذا فَبِقَدْرِ ما نُظْهِرُه من حساسيّةٍ حيال الالتزام بالوصفة العلاجية للأمراض الماديّة بِقَدْرِ ما يجب أن تكون عليه حساسيتنا في اتباع كلام الحكماء في مسألة الشدِّ المعنويِّ.
وصايا مهمة
والآن سأحاول هنا أن أشير إلى بعض الوصايا فيما يتعلّق بهذا الموضوع:
أولًا: عدم الركون إلى العزلة: “فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ”[2].
فمن ينفصل عن مجتمعه ويبتعد عن أصدقائه وأحبابه فهو مُعرَّض لا محالةَ إلى افتراس النفس والشيطان والتهامِهما.
يبدأ أمرُ الوحدة لدى الشخص أوّلًا بالتحسّر على عدم استطاعته القيام بعمله، وهذا أمر جيد في الواقع، لكنه غيرُ كافٍ، ولا يُكتب له الديمومة، ثمّ يتطوّر الأمرُ لِيَصِلَ إلى الاستهانة بما يفعله الأصدقاء، ومع تطوّر الموقف شيئًا فشيئًا يقوم ذلك الشخص بإنكار أفكار الدعوة ومُثُلِها العليا كلّيّةً، وادّعاءِ فضلةِ وعدم ضروريّة هذه الأنشطة، فمثل هذا الشخص مسكينٌ ومُعرَّضٌ للمحو، فإن لم نَحُلْ بينه وبين الوحدة التي أوصلته إلى تلك الحالة من البُعْدِ عن المجتمع؛ فمن الصعب أن يتخلَّص من تلك العاقبة السيّئة، وعلى ذلك فلا بد وأن توصدَ كلّ الأبواب التي يُحتمل أن تؤدّي إلى مثل هذه النتيجة.
على المؤمن الحقيقي أن يكون -بقدر حبّه للإيمان- ذا شدّ معنوي وعزم أكيد على عدم سلوك طريق الضلالة حتى يحافظ على ذاتيّته
ثانيًا: البحثُ بعزمٍ وإصرارٍ دائبين عن التجدّد العلمي والمعرفيّ، فالله عز وجل عرضَ لنا الكونَ كتابًا منظورًا، ثم أرسل إلينا الأنبياء وأنزل عليهم الكتب السماويّةَ هدايةً وتعليمًا لنا لما في الكون، ثم ظهر من بعدهم آلافٌ من الأولياء والأصفياء والعلماء الذين تحلّقوا حول الهالة نفسِها، وشرعوا في شرح الكتابين: الشريعةِ، والكونِ؛ كلٌّ حسب استعداده وقابليته ومشربه، كانوا يعملون كالنحل؛ يحطون وينهضون من زهرة إلى أخرى ليجمعوا الرحيق الشافي ويضعونه في أقراص المعرفة المتنوّعة، وحتى نُخضِعَ أعمالنا إلى التوافقِ مع الحِكمة الإلهية فعلينا أن نربط كلّ ما يجري في الكون بغاية وهدف مُعَيّن، وأن نقيِّمه وندرُسَه بما يتوافق مع مقتضى الحكمة الإلهية، فإن لم يستطع الإنسان أن يتبع السنة الفطرية، أو يشارك معرفيًّا في التجدُّدِ الحادِثِ في الكون كلَّ لحظة، أو ينسجَ النسيجَ نفسَه فلسوف يخسر حيويته المعرفية بالتتابُعِ شيئًا فشيئًا، وسرعان ما يتعرّض لانحطاط وفسادٍ غير متوقّع، وبعد مدّةٍ لا يجد نفسَه صالحًا لأي عمل.
——————————————————–
المصدر: محمد فتح الله كولن، الاستقامة في العمل والدعوة، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 79-82.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.
[1] صحيح البخاري، الإيمان، 8.
[2] سنن أبي داود، الصلاة، 47.