Reader Mode

الحال: هو عيش الإنسان في أعماق ذاته بنفحات ترد من عالم الغيوب، واستشعاره بتمايزات الليل والنهار والصباح والمساء التي تجرى في أفق القلب. فالذين فهموا “الحال” بما يحيط بقلب الإنسان، من طرب أو حزن أو بسط أو قبض، من غير جهد وسعي منهم، عبّروا عن دوامه واسـتقراره بـ”المقام”، وعن زواله وذهابه بـ”النفسانية”.

وعلى هذا الأساس يمكن أن يُطلق على “الحال” أنه هبة إلهية، ونفحات الأنس في ربوع القلب. وعلى “المقام” أنه بلوغ الإنسان فطرة ثانية، باستنشاقه هذه النفحات بإرادته وعزمه حتى يملّكها ذاتَه.

الأرواح والمشاعر المتنبهة للمعرفة الإلهية، ترى تموجات “الحال” على ربوع القلب، مثلما ترى انعكاسات الشمس على حبابات الماء، تراها وتتحسسها وتقابلها بإدراكات مختلفة متنوعة.

و”الحال”؛ يشير إلى مصدر كل شيء دون ستار وحجاب، كما هو في الخلق والحياة والنور والرحمة، ويذكّر بالتوحيد الخالص، إذ يسوق الإنسان باستمرار إلى أن يكون في شدّ روحي وفي تحريات بديلة. بينما “المقام” يقرر ما يقرر ضمن منشور بلوري مثقل بضباب الجهد ودخان السعي، فيربط الحقيقة بعرش كمالاته. ولهذا فالشعور والحدس بالواردات التي ترد على القلب، وشقّ طريق صائب آخر كل لحظة، إلى مَن عُرف في القلوب بـ”كنتُ كنـزاً” يُعَدّ طوراً أكثر إكراماً من واردات فيها شيء من حظوظ تعريف أنفسنا والتعبير حسب لوننا. ولأجل هذا فقد قال سيدنا الصادق المصدوق : (إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ)( ) مذكّراً بما هو المهم لدى الحق سبحانه، وطالباً توجيه المرآة إلى التجلي، حيث المحراب الذي ينبغي التوجه إليه.

وفي رواية أخرى ذكر الأعمال مع القلوب فقال (إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ) تكرمة وتفضلاً للمقام، لأجل دوام الحال الموصل إليه.

“الحال” هو التجليات التي ترد تترى في أوقات موافقة لمراد الإرادة الإلهية المطلقة.. ومجال انتشار هذه التجليات أفق القلب.. والشعور والحس يقتنصانها ويفرغانها في قالب. ومن أجل هذا فـ”المقام” الذي هو مرتبة قد سكنتْ موجاتُه واستقرت، يقابله “الحال” الذي هو في شبكة التأرجح بين المدّ والجزر والمرتبط بالمقدرات العالية، فكل ظهور وورود يأتي في إطار آخر يختلف عمّا قبله، يظهر ويختفي باستمرار كالحزم الضوئية المختلفة في الأطوال والألوان الآتية من الشمس.

“الحال” هبة إلهية، ونفحات الأنس في ربوع القلب.و“المقام” بلوغ الإنسان فطرة ثانية، باستنشاقه هذه النفحات بإرادته وعزمه حتى يملّكها ذاتَه.

فالأرواح والمشاعر المتنبهة للمعرفة الإلهية، ترى تموجات “الحال” على ربوع القلب، مثلما ترى انعكاسات الشمس على حبابات الماء، تراها وتتحسسها وتقابلها بإدراكات مختلفة متنوعة. فالذين لم تُنظّم قلوبُهم تنظيماً بمعيار دقيق وظلت أرواحُهم منقطعة عن عوالمها، ربما يعدّون هذه الأمور أوهاماً وخيالات، في حين أنها أحق الحقائق وأجلى الظواهر لدى الذين ينظرون إلى الوجود بنور الحق المبين.

ولما كان أعظم من حظي بـ”الحال” يرى سابق حاله دون حاضره -زيّن الله قلوبنا بنور ذلك الحال الأوطأ- فإنه كان يقول: (وَاللهِ إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً).

أجل، لا يمكن أن يفكر ذلك القلب الطاهر المطهَّر غير هذا التفكير في سفرته الأبدية المتوجهة إلى اللامتناهي وشعوره بالحاجة إلى النور الأبدي والبراق الأبدي.

اللّهم يا محوّل الحول والأحوال حوّل حالنا إلى أحسن الحال،

وصلّ وسلّم يا ربّ على سيدنا محمد المختار وآله وصحبه الأخيار.

المصدر: فتح الله كولن، التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ4، 2010، صـ59/ 60/ 61.