إن المؤمن الذي امتزج بمفهوم “الشدّ المعنوي” يُحِبُّ جميع المؤمنين وكل الكائنات لا لشيءٍ سوى لله الذي يفنى في محبَّتِهِ جلّ وعلا، يحبهم بلا غرض، ولا مقابل. أجل “يحب المرءَ لا يحبّه إلا لله”. وتعتبر هذه المسألة عامِلًا مهمًّا في تشكّل مجتمع الطمأنينة والوجدان الذي يرتضيه الله، أما الأمر المهمّ الآخر فهو اتخاذ موقف ضد الكفر والشدُّ المعنوي تجاهه: “وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ”.
أجل، لو لم يكره المؤمن أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذفَ في النار لَمَا ذاق طعمَ الإيمان، أي إنّ على المؤمن أن تأخذه رعشةُ وينتابه التقزُّزُ من الكفر والجحود والضلالة. ومن خلا قلبه من البغض لهذه الصفات السابقة لا يمكن يمتلك أدنى رغبة في تلاشى الكفر وإحلال الإيمان محله ليهيمن على القلوب.
عشقٍ الإيمان وبُغضٍ الكفر عامِلًان مهمًّان في تشكّل مجتمع الطمأنينة والوجدان الذي يرتضيه الله تعالي.
الشد المعنوي.. حب وبغض
لا بد أن يشعر الإنسان بعشقٍ عارمٍ للإيمان وبُغضٍ دفينٍ للكفر. وإن اتخاذ موقف مناهضٍ للكفر الذي يترتب عليه كل أنواع الشرور شرطٌ جِدُّ مهمٍّ في حصول المؤمن على الشدّ المعنويّ، ومن أجل صالح الدولة والأمة بل والإنسانية بأسرها.
إن أعظم الجرائم التي ارتكبها أعداء الدين والدولة ضدّ الأمة هي تَغْيِيبُ وإذابة شدّها المعنوي وتبديد روحها وقِيَمِها الأساسيّة، وهذا الفكر الملعون أطلق على الجهاد بغيًا، وعلى النصر احتلالًا، وحوّل أمةً جسورةً عريقةً إلى قُطْعَان من الغنم وعلى حدّ قَول الشاعر “محمد إقبال” فلم يَعُد يؤثّر فيها احتلال أو استغلال، أو تلاعبٌ بعزتها وشرفها، فمثلًا إن انتُهك عرضها، ودُنِّس شرفها، ولم يعد هناك ما يسمى شرف واعتبار؛ وذلك لأنها فقدت شدَّها المعنوي.
إن “الشدَّ المعنويَّ” هو رغبةٌ مُلِحَّةٌ في الإيمان، ومَقْتٌ بغيضٌ للكفر والضلالة والطغيان. إن ذا الشد المعنوي:
هو مَن يستشعرُ في وجدانه انفعالًا داخليًّا كأنّه ناجمٌ عن ألف مشاجرة ومشاجرة…
هو الذي لا ينشغِلُ سوى بمشاكلِ أمّته…
هو الذي يرضى أن يُقذفَ في جهنّم، وأن يموت ويحيا مرّاتٍ فداءً لأمّته ونجاتها…
هو الذي يستشعر في وجدانه بهموم مجتمعه وأمّته…
هو الذي يتحسّر أنينًا، ويتضوَّرُ أَلَـمــًا، حيالَ مَن يُشرِفون على جهنّم ويتتابعون سقوطًا فيها…
هو الذي يحمِلُ في وجدانه هموم أصحاب الضمائر المعذّبة ممن بلا خلاقَ لهم بالإيمان…
هو مَن تتّقِدُ في أعماقه نار الشعورِ بالمسؤوليّة، وجذوة الشفقة فيقول: كيف يتحمل هؤلاء حياة المعاناة هذه، وكيف يواصلون حياتهم في هذا الجو الخانق من الكفر والضلالة؟!
مشاعل تنير الظلمات
إن أمثالَ هؤلاء يُحرِزون كلَّ يومٍ مرتبة الشهادة والجهاد بما يحملونه من الأحاسيس الإنسانية النقية، لذلك لا تُخيفهم أو تُثَبِّط من عزيمتِهم أو تقودهم إلى الفتور والتراخي صعوبةُ الظروف، ولا ضيق السبل، ولا تتابع الظلمات، ولا سيطرة الضباب والدخان على البيئة حولهم، بل لا يمكن لهذا كلّه أن يؤثّر فيهم فضلًا عن أن يلوي أعناقهم للكفر أبدًا.
حين يفقد المجتمع شدَّه المعنوي كبِّر عليه أربعًا، لأنه ميْتٌ، وإن كان حيًّا صوريًّا، وحتّى تلحقَ أجسادهم بأرواحهم الميتة يسلط الله تعالى الظالمين عليهم فيسحقون أجسادهم لِتُقْبَرَ مع الأرواح.
الانبعاثً الجديدً، يقع على عاتق أصحاب الشدّ المعنوي
الموت يبدأ أوّلًا في الروح والقلب، ثم يسري إلى الجسد، أما من لم تمت أرواحهم فإنّ الله يرعاهم فلا تسحقهم أقدام عدوهم، وبالعكس فإن الهزيمة المعنوية تعقبها هزيمةٌ مادّيّة. فضلًا عن ذلك فإن رغبة هؤلاء في حياة دينيّة ما هو إلا وهم وعبث، لأنّ مَن لم يحافظوا على شدّهم المعنويّ -أيًّا كانوا- لا عاقبةَ لهم سوى الموت. فإن كنا ننتظِرُ انبعاثًا جديدًا، فَلْنَعْلَمْ أن ذلك يقع على عواتق من يُحرِزُونَ الشدّ المعنوي.
———————————————————————-
المصدر: محمد فتح الله كولن:”الاستقامة في العمل والدعوة”، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، صـ 65-68.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.