Reader Mode

إن من نذر نفسه للحق تعالى واستمد العون من الله عز وجل ، يمضي في طريق وظائفه ومسؤولياته من دون أن ينظرَ إلى الوراء؛ لأنه يعرف القوة التي استند إليها، ويعرفُ مالكه الذي يعمل هو له وهو مطمئن لصواب هدفه والطريقِ التي يسلكها وأنه في رعايةِ من لم يتخل عنه -ولو لحظة واحدة- في هذه الطريق ولن يتخلى عنه. فهو -لذلك- لن يقع في تشرذُم فكريٍّ أو حسي أبدًا ولن يكابد تشوشا أو ترددًا. بل ينكبُّ على أداء ما كُلِّف به في شعور وحساسية مرهفة، ثم ينتظر النتيجة من الله تعالى في اطمئنان مكين… فيهتمُّ اهتمامًا بالغا بترك التدخل في شأن الربوبية ويحصُرُ حركاتِه وفعالياتِه في ابتغاء مرضاة الحق سبحانه. فيعتبر رضاه جل وعلا ركنا أساسيا وضروريا… ولذلك تراه موصَد الأبواب -ما استطاع- حيال كل الأمور التي ليس فيها رضا الله تعالى، وساعيًا إلى تجنُّب رغبات النفس ومطالبِها. فإذا توعرت الطرق يومًا وتشابكت السبلُ، واحلولكت الآفاقُ، ودوَّت أصداءُ الاضطرابِ والقلق، فلن يتشكى عن الطريق التي يسلكها ولن يرتبك أو يتقهقر، بل يستعينُ بالله ويتشبثُ بالسعي والعمل ويستسلمُ للحكمة الإلهية.. ويفعل كما فعل سيدنا نوح (عليه السلام (حيث رفع يديه ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾(القمر:10)، ثم يلتجئ بتمام الإخلاص والصدق إلى حفظه تعالى ورعايته ويترقب منه ما يمُنُّ عليه من لحظة الفرَج ونقطةِ الخروج.

إن القلوب التي تتلقى أوامر الحق تعالى لا تهتز ولا تترنح حيال المصائب ؛ يرون كل حادثة “معاملةً” مرتبطة بإرادة الله المتعالية، ويحتسبون المصائبَ امتحانا، ويستقبلون الامتحانات في توكل وتسليم.

من صور العبادة

وكما أن من العبادة أن يكون الإنسان على طريق الحق جل شأنه، ويُعرِّفَ الناس بالحق سبحانه ويذكِّرهم به، ويقومَ بإرشادِ مَن في الطريق إلى آداب الطريق… فكذلك من العبادة توقُّع كلِّ شيء من الله تعالى، والانتظارُ في الأمور التي تتطلب الانتظار مع الصبر على تباطؤِ الزمان بشكل يستنفد الصبر ويسلب العقل.. فالمرء قد يحظى بالتوفيق في أولِ حَملة أو حركة أو قيام وشبوب، فيجدُ ما يبتغي؛ لكن قد يجول ويصول كجواد أصيل، فلا يحصل على شيء في الظاهر، لكنه يفوز في النهاية بصبره وإقدامه ونيته.

قد يحظى المرء بالتوفيق في أولِ حَملة أو قيام وشبوب، فيجدُ ما يبتغي؛ لكن قد يجول ويصول كجواد أصيل، فلا يحصل على شيء في الظاهر، لكنه يفوز في النهاية بصبره وإقدامه ونيته.

وأحيانا تَقطع الحوادثُ الدنيوية والدنيويون الطريقَ أمام الإنسان، وأحيانا تشتدُّ وطْأَةُ الأحداث المنهمرة فلا يُطاق التصدي لها… فتتعاقب السنوات وتمضى وكأنها “محرَّمٌ” كلها، وتؤدي الطرق إلى “كربلاء” فتنسدُّ وتقف هناك!. لكن القلوب التي تتلقى أوامر الحق تعالى -رغم ذلك كله- لا تهتز ولا تترنح ولا تتذبذب حيالها؛ فيرون كل حادثة “معاملةً” مرتبطة بإرادة الله المتعالية، ويحتسبون المصائبَ امتحانا، ويستقبلون الامتحانات في توكل وتسليم، ويُعلِّمون قُطَّاعَ الطرق -الذين لا يرعون ذمة ولا تقاليد- دروسًا في الإنسانية، ويقوِّمون كل حركاتهم وتصرفاتهم في إطار دقة الامتثال للأوامر الآتية من العوالم الماورائية؛ فعينٌ منهم تَرْقُب سلوكياتِ أنفسهم، وعينٌ أخرى ترقُبُ انفراجَ ذلك الباب المتعالي، ويندفعون -بلا تشتيت لهمتهم- نحو هدفهم الذي هو أسمى الأهداف –جَعَلَنا اللهُ فداءً لذلك الهدف السامي الذي هو مرضاته تعالى-، ويتحرزون من التلوث بالتوجه نحو الأغيار ولو بخيالهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، الطبعة الثانية، ٢٠١2، ص: 112

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.