بينما كان بعض أهل مكة ممن يقطر الدم من أفكارهم ومن مشاعرهم يكادون أن يجنوا من الحقد والكره إلى درجة السعار، كان رسـول الله (صلى الله عليه وسلم) يدخل “يثرب” في ظل الفرح الغامر لأهلها وهم ينشدون:
طلع البدر علينا من ثنية الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
وفي الموضع الذي توجد فيه القبة الخضراء حاليا أقام الرسول (صلى الله عليه وسلم) مسكنه المبـارك، كما بنى مسـجده بجوار بيته، فكان بيته ومسجده المباركان متداخلان ويتنفسان الجو العطر المبارك نفسه. ثم بدأ ينفث فيما حواليه الحياة بالوحي وبالرسالة الإلهية وبإلهام روحه… فَدَيْنا نبع الحياة هذا، ومن بلغه ونفثه ونشره بأرواحنا وأنفسنا.
سيقوم الحواريون الجدد بنفث الصدى المنعكس من غار حراء على قلوبهم على من حولهم في كل مكان يحلّون فيه، ويرفعون الموانع والعوائق الموجودة بين القرآن والقلوب منهين بذلك فراقا دام عدة عصور.
هجرة الأنبياء
كان آدم(عليه السلام) قد بدأ رحلة هجرته الطويلة من الجنة إلى الأرض، لكي يصل إلى الأفق الواسع للحياة الأخروية التي يشير إليها معنى وروح الهجرة. أما نوح (عليه السلام) فقد تحمل أعباء السياحة في البحار إضافة إلى سياحته في البر. وتجول إبراهيم (عليه السلام) في أقطار بابل والحجاز وأرض كنعان دون أن يفتر. وانتقل موسى (عليه السلام) من بيت والدته إلى قصر فرعون، ثم من مصر إلى الأيكة ذهابا وإيابا مرات عديدة. ومر السيد المسيح (عليه السلام) من جميع الجسور التي مر عليها الأنبياء السابقون. أما حواريو عصر النبوة فقد نظموا كوادر الإرشاد وقوافلها إلى جميع أرجاء العالم.
المهاجرون الجدد
وإذا أتينا إلى حواريي عصرنـا الحالي فقد انتشروا في الجهات الأربع للأرض وهم يستخدمون الوسـائل العصرية ويبلغون فكرهم وهم يرددون الآية الكريمة: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَـبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (النساء: 4). وبفضل هجرتهم هذه سيصل صوت القرآن إلى العديد من الناس، وسينفتح أمام بعضهم سبل الإيمان، وأمام البعض الآخر سبل تأسيس الصداقة والتفاهم والحوار.
بفضل هجرة الحواريين الجدد سيصل صوت القرآن إلى العديد من الناس، وسينفتح أمام بعضهم سبل الإيمان، وأمام البعض الآخر سبل تأسيس الصداقة والتفاهم والحوار.
أجل!.. سيقوم هؤلاء الحواريون بنفث الصدى المنعكس من غار حراء على قلوبهم على من حولهم في كل مكان يحلّون فيه، ويرشدون القلوب المتخدرة باليأس إلى طرق تحريك هذه القلوب وإحيائها من جديد، وإيصال الهبات والنعم الإلهية إلى الجميع عن طريق العقل والمنطق. ورفع الموانع والعوائق الموجودة بين القرآن والقلوب منهين بذلك فراقا دام عدة عصور، ومحققين بذلك اللقاء الكبير. وهم على وعي بأن نشاطهم هذا إنما هو سباق في مجال الإيمان والعشق والشوق، وأنهم بقيامهم بتعليم الصغار الذين استولى اليأس والخوف والضعف على قلوبهم ينقذونهم من الجو الضيق والخانق لهذه الحياة الفانية، ويدلونهم على طرق الوجود الحقيقي والحر، وعلى آداب المحبة والتوقير.
المصدر: فتح الله كولن، ترانيم روح وأشجان قلب، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ4، ٢٠١0، ص: 98
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.