Reader Mode

إن الفكر والهدف السامي نشيدٌ يحرك الأجيال المثالية، و”مولِّدُ طاقةٍ” يَشحن طاقتَهم الدائمة، ومنبعٌ صافٍ يمد عشقَهم وحماسهم، ومشاعرُ فياضةٌ متدفقة تَرفع إلى السماء نداءَ مصيرهم. وبفضل هذا الفكر السامي، تصل المساعي الفردية المتوسعة باطراد والمتحولةُ إلى حركة جماعية، وإلى عمق مختلف وتدفق مختلف وإيقاع مختلف، و-بطبيعة الحال- إلى نسق مختلف، فتجدُ لتيارها مجرىً حتى وإن اضطُرَّت إلى اجتياح القمم لمواصلة المسيرة.

إن من يُضيّع الغاية المنشودة سيسقط –بالضرورة كائنا من كان- في شباك الأنانية، وتحل رغباته الجسمانية محل عشق “الخدمة”، وتنطفئ عنده مشاعرُ “العيش من أجل الآخرين”.

ففي عصورِ تخبُّطِ الإنسانيةِ في الظلمات، كان أهم مصادر القوة لتلك الثلة من المجاهدين الأوائل المنبثقةِ من صدر الصحراء هو إيمانهم واعتبارهم تفريغَ إلهاماتِ إيمانِهم الفوارةِ في قلوبهم إلى صدور الآخرين هدفا أسمى؛ فبحَملة واحدة بَدَّلوا مصيرَ الدنيا من النحس إلى السعد، وبنفخة واحدة صاروا صوتَ الأمل ونَفَسه في ثلاث قارات. وكانت المقومات عينُها وراء الأمل العثماني الكبير؛ فهي التي استنهضت عشيرةً من هضاب آسيا، ودفَعَتْهَا للسير إلى الأناضول لتُقيمَ دولةً عظمى. وأيضا هي التي كانت في عقول أبطال الكفاح الوطني (حرب الاستقلال). وكذلك جموع الهند الذين لم يكن يبدو على سيماهم أمارات الحياة في أواسط القرن العشرين، فحركهم إلى الحرية والاستقلال حماسٌ عظيم؛ كان أساسَ قوته إيمانُ ذلك الشعب وأمله، وفكرةُ أن يَحْيَوْا ويَبقوا بذاتهم ومقوماتهم.

مقومات الهدف الأسمى

لكن ينبغي أن يكون الهدف السامي، الذي يُلهِب الحماسَ في صدور الناس ويدفعُهم إلى التحرك، هدفا منضبطا بضوابط معينة، ومرتبطا بنظام معين؛ فإن كنتَ مهندسًا، فعليك أن تُعِدّ العدّة قبل البدء بإنشاء صرح؛ فتتفحصَ متانةَ عناصرِه وسلامتَها، وانسجامَ آحادها فيما بينها ومشاركتَها في جمال ذلك الصرح ومظهره. وهل يتحقق الكمال من غير توافر التوافق والمواءمة والانسجام في الأجزاء كلها!؟ إنَّ الهمم والمبادرات الفردية، إنْ لم تنضبط بالتحرك الجماعي ولم تنظَّم تنظيمًا حسنا، فستؤدي إلى تَصادُم بين الأفراد لا محالة… وبالتالي سيَختل النظامُ، وتَنهضُ كل حملة في عكسِ اتجاهِ حركةٍ أخرى، وتُنقِص كلُّ عملية من قيمة الناتج حتى يقرب من الصفر، كما في حاصل الضرب لكسور الأرقام ببعضها في الحساب. وكما أشرنا سابقا، ينبغي أن لا تُطفأ جذوةُ الطاقات الفردية بتاتا، باحتساب ضرر قد تسببه. بل على العكس؛ تجب العناية الرفيعة حتى لا تُهدَر ذرةٌ واحدة من تلك الطاقة، وتُوجَّهَ نحو تحقيق الهدف المنشود الذي تم تعيينه سابقا، ويزاح خُلُق المصادَمة في النفوس، ويستبدل بروح التوافق، بل يُطَبّعَ كل إنسان بهذا الطبع مهما أمكن.

إن السكون والجمود، وكذلك الفوضى في الحركة، كلاهما موت. والمحتوم على الأمم التي تضعضعت نفوسُ أفرادها بمثل هذا الموت أن تُغلَب وتُطرَد إلى خارج مسرح التاريخ.

الأديان تنادي بالأهداف السامية

وقد لا نجانب الصوابَ إن قلنا: إن الأديان كلها جاءت لترسيخ هذا الفهم خاصة، ضمن أبعاد تبليغاتها الشاسعة؛ فقد وَضع كلُّ دين ضوابطَ لتنظيم القدرات الفردية، فحَوَّلَتْها إلى مقومات مهمة في توجيه كل الطاقة الكامنة الموجودة نحو المسير إلى حضارة جديدة وعمران جديد. فبإرشاد الدين يوازِن كل فرد حريتَه وفعالياته الشخصية، مع حركة المجتمع وفعالياته؛ فيتصرف حرًا موفيًا إرادتَه حقَّها من جهة، ومحافظًا على تكامل الحركة مع الآخرين من جهة أخرى، فينجح في تحقيق الأمرين معًا. كالنجم التابع في موقعه، يدور في فلكه حول مركز الجذب، وحول نفسه في الوقت عينه. ولا يغترنَّ أحد بحيوية الحركات ونشاطها كلٍّ على حدة مهما بلغت، إن لم ترتبط أجزاءُ التكامل والتوازن بمنظومة أقوى وأمتن؛ فربما لا يُسنِد بعضها بعضًا في خط المقصود العام، فتولد أحيانًا نتائج أشد سوءًا من السكون والجمود. خلاصة القول: إن السكون والجمود، وكذلك الفوضى في الحركة، كلاهما موت. والمحتوم على الأمم التي تضعضعت نفوسُ أفرادها بمثل هذا الموت أن تُغلَب وتُطرَد إلى خارج مسرح التاريخ.

في عصورِ تخبُّطِ الإنسانيةِ في الظلمات، كان أهم مصادر القوة لتلك الثلة من المجاهدين الأوائل المنبثقةِ من صدر الصحراء هو إيمانهم واعتبارهم تفريغَ إلهاماتِ إيمانِهم الفوارةِ في قلوبهم إلى صدور الآخرين هدفا أسمى.

ومن دوافع الميل إلى التحرك الفردي في الإنسان؛ الأنانيةُ، وثقةُ الإنسان بنفسه، وقصورُ فهمه لحدود قدرته، وقصورُ إدراكه لمدى تأثير روح التوحد والتجمعِ والفعالياتِ المشتركة والوفاقِ والاتفاق في جلب العناية الإلهية. وكذلك، قد تتسبب الشهرةُ والمنصب والطموحاتُ الشخصية والنوازع الأخرى في تقدُّم الملاحظات ِوالنوازع الفردية إلى الصف الأمامي. وقد يَظهر بمثل هذه الملاحظات والنوازع منحوسون نسوا أهدافهم وبيئتهم تمامًا، وخنعوا لمطالب الأكل والشرب والنوم وطرحِ الفضلات، بعدما كانوا في صفوف “الخدمة – الدعوة” يهتفون بأناشيد الخدمة ويبذلون قصارى جهدهم طلبًا لـتحقيق مرضاة الله تعالى. إن من ينسى المقصود ويُضيّع الغاية المنشودة سيسقط –بالضرورة، كائنا من كان- في شباك الأنانية، وتحل رغباته الجسمانية محل عشق “الخدمة – الخدمة”، وتنطفئ عنده مشاعرُ “العيش من أجل الآخرين”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، طـ2، ٢٠١2، ص: 43

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.